يُرجع بعض كتّابنا ما نعانيه من عيوب ومصاعب سياسية إلى تلاشي أحزابنا السياسية، وافتقارها إلى الفاعلية الكافية التي تمكنها من قيادة مرحلة معقدة وحافلة بالمخاطر، كالمرحلة الحالية التي نجتازها منذ أعوام، بصعوباتٍ يبدو جليا أننا لسنا مؤهلين لمواجهتها.
ويصر بعض ناشطينا على أن استحضار الحزب السياسي سيعيننا على تخطّي متاعبنا، لأسباب ليس أقلها أهمية أن حضوره خير من غيابه، وأنه شكل العمل التنظيمي الأكثر قدرة على تأطير جهودنا وتوجيهها نحو أهداف معروفة بدقة، سيكون من الصعب إلى درجة الاستحالة بلوغها، في حال بقينا على عشوائيتنا، وحافظنا على فردياتنا وذاتياتنا التي ستبقى غير منضبطة، بالضرورة، إن استمرت نزعاتنا الخاصة في حبسنا داخل مصالح جزئية، وحسابات تبقى ضيقة، مهما كانت شخوصنا واسعة الآفاق رحبة التطلعات.
لعبت أحزابنا دوراً كبيراً في ما وصلنا إليه، وبلغناه من تعثر وفشل، ونكابده من يأس وخيبات. صحيح أن الحزب إطار تنظيمي لا غنى عنه في أي عمل عام، لكن الأحزاب أنماط مختلفة لها أدوار ومهام تتباين بتباين طابعها وهويتها، بنيتها ووظيفتها، فهل يكفي مجرد وجودها لإنجاز أعمال تفوق، في جدواها، ما قد ينجز من أعمال في غيابها؟ لن أناقش قضايا معقدة تعطي التنظيم معنى محدداً هو نفي العفوية أو الغاؤها، وتضع النزعة الجماعية، أو التجميعية، فوق النزعة الفردية، وتراها بالتعارض معها.
سأكتفي بملاحظة تتصل بنمط أحزابنا الذي أعتقد أنه لعب دوراً كبيراً في عجزها عن تحقيق أي من وعودها التاريخية، على الرغم من أنها وصلت إلى الحكم، ليس بفضل ما لها من جماهير شعبية وقوى مجتمعية، بل بقوة عسكر انقلابيين أعضاء فيها، انقضوا على حكوماتهم، وأزاحوها عن السلطة، بيد أنهم أعادوا إنتاج الأوضاع التي ثاروا عليها في صيغ مختلفة، بهذا القدر أو ذاك، وعبر ممارسات وسياسات أشد انحطاطا وعنفاً ومعاداة للشعب من التي كانت معتمدة قبلها.
بسبب ضعف الطبقات والتوزع الطبقي في مجتمعاتنا، والانعدام شبه التام للاستقطاب المجتمعي بين الطبقتين البرجوازية والعاملة، وكثافة الحضور البرجوازي الصغير في المدينة غير المسيسة والريف الأمي والمتأخر، ودور الدولة الوليدة في إدارة الاندماج الاجتماعي والتنمية، ودورها في التصدي للمهام التي تقوم بها عادة الطبقة البرجوازية، من دون أن تمتلك ثقافة ليبرالية، أو تنجز ثورة ثقافية عادية للتقليد والعقل السكوني/ الغيبي، نشأت أحزابنا من نخب متفرقة، تفتقر إلى عمق شعبي وطني، يستطيع حملها كتكوينات سياسية مستقلة، تمتلك استراتيجيات تغيير ترتبط بمصالح وقوى تاريخية جديدة وثورية.
نشأت كأحزاب نخبوية، تضم أفراداً متقاربين في النظرة والهدف، صاغوا برنامجاً مشتركاً ضمنوه مطالبهم المباشرة (التكتيكية)، وطموحاتهم البعيدة التي اعتبروها استراتيجية. وحين ارتطموا بعزلتهم عن مجتمعهم، وبضيق المجال السياسي وضبابية الشأن العام، ووجدوا أن قواهم لا تكفي لخوض صراع مع سلطة منظمة، تمتلك أدوات وأجهزة قهرية لا يسعهم مواجهتها، ركّزوا عملهم أكثر فأكثر على السلطة، باعتبارها “مسألة السياسة المركزية”، ووجدوا أنفسهم غرباء أكثر فأكثر عن مجتمعهم، بل واستمتعوا بغربتهم التي أطلقوا عليها ألقابا جعلتهم طليعيين وثوريين ورياديين … إلخ.
ثم، وبمرور الوقت، ركبتهم أفكار معادية لمجتمعهم الذي جعلوه “جاهلاً ومتأخراً”، لا يعرف قيمتهم، ولا يسير وراءهم ولا يستحقهم. بمرور الوقت أيضاً، انفرز عالم الأحزاب عن عالم الشعب، الذي بقي خارج السياسة بمعناها الثوري والإنساني، وتاليا اليومي، وبدأت مآلات الصراع السياسي تتحول إلى تابع للعلاقة مع العسكر الذين صاروا مناط الأمل ومعقد الرجاء، وارتبط التغيير السياسي، وبالتالي الاجتماعي، بهم، وباستعدادهم للقيام بثورةٍ، سرعان ما تقلصت إلى انقلاب يوصلهم إلى الحكم.
تنطبق هذه الآلية على جميع الأحزاب، على الرغم من أن بعضها ظل مخلصاً لفكرة تحالف
شعبي، توهم أنه سيقوم بمجرد المطالبة به، وحين لم ينجح في تحقيقه، أعلن نفسه بديلاً له، يجسمه في الواقع السياسي. بذلك، صار الحزب الشيوعي الستاليني الذي لم يتجاوز عدد أعضائه، في أي يوم، بضعة آلاف قليلة، يسمي نفسه “حزب العمال والفلاحين”، مع أن عدد العمال والفلاحين فيه لم يبلغ أكثر من 2٪ من عدد بورجوازييه الصغار ونخبوييه الذين كانوا، في معظمهم، من الموظفين ومعلمي المدارس ـ الابتدائية ـ غالبا وطلبة الإعدادي والثانوي.
انتهت أحزابنا في سورية إلى حال من العزلة المحرجة، قبل ما سمي “ثورة البعث” التي قام بها ضباط استولوا على السلطة بانقلاب أثيرت حوله أسئلة خطيرة، ما لبثوا أن نحوا قيادة حزب البعث جانباً، قبل أن يحكموا على أحد مؤسسيه، ميشيل عفلق، بالإعدام، بتهمة جعلت منه يمينياً/ فاشياً، ويغتالوا مؤسسه الآخر، صلاح الدين البيطار، في باريس، وانتقلت من العزلة إلى الفشل الكامل بعد هذه “الثورة” التي مرت بسلسلة انقلابات داخلية بين “إخوة السلاح”، انتهت إلى سيطرة حافظ الأسد على السلطة بمفرده، وهو الذي كان قال، في مؤتمر عقده البعثيون بعد فشل محاولة انقلاب قاموا بها في حمص وحلب: من الواضح أنه ليس هناك حزب، وعلى الجيش إعادة بنائه. بعد انفراد الأسد بالسلطة عام 1970، وتصفية معظم رفاقه في القيادة، صار السوريون يقولون ساخرين: كان الجيش جيش الحزب، فصار الحزب حزب الجيش.
واليوم، وبعد ثورة الحرية والعدالة والمساواة والكرامة التي تعيشها سورية منذ أواسط مارس/آذار من عام 2011، وانطلقت من دون أي إعداد أو تحضير من أي حزب، ولم يسبق قيامها تحالف وطني أو شعبي قاده أو أداره حزب ما، بل وجاءت من خارج النسق الذي تبنته بقايا الأحزاب السورية المعارضة، المعزولة والقليلة العدد، ويقوم علي تصور لينيني، يقول ببناء تنظيم معاد للسلطة، يركز جهوده على تشكيل جبهة سياسية/ مجتمعية ثورية، تزيد قدرتها، بمرور الوقت، على الصمود في وجه القمع ومحاصرة النظام، كما تحاصر قلعة، واختراق أجهزته وتحييد وكسب قطاعات منها، ينتمي منتسبوها غالباً إلى الفئات الاجتماعية المنخرطة في تحالف ثوري، يقوده حزب أعد نفسه مسبقاً لقيادة الثورة، ويمتلك استراتيجية وتكتيكاً، يحدث تطبيقهما المتعاقب التحول المطلوب في موازين القوى، وخطة ثورية تشخص المراحل المحتملة لمسار الأحداث المفضية إلى الانفجار العام، تعرفها وتسير وراءها جماهير تصارع النظام، وتريد إسقاطه، مثلما تسقط قلعة تمت محاصرتها ونضبت مواردها. يتوج سقوطها عمل
عسكري سريع هو أعلى فاعلية لجماهير، سبق أن احتلت المواقع المفتاحية والمراكز الحكومية، وانخرطت في عصيان شامل، عزل السلطة وحال بينها وبين التحكم بأجهزتها، وخصوصاً منها الجيش، وحولها إلى أشخاص متفرقين، فقدوا مفاتيح السلطة، والقدرة على حماية أنفسهم، لم يعودوا يفكرون بغير النجاة بأنفسهم.
لم يقد الثورة السورية حزب من الأحزاب الضعيفة والمعزولة شعبياً والعاجزة سياسياً، ولم ينخرط الجمهور في تحالف ثوري، ولم ينفذ خطة ثورية وضعت مسبقاً، ولم يمش وراء طليعة منظمة، ولم يقدم له أحد استراتيجية وتكتيكاً ثوريين، ولم تنطلق الثورة من تبدل في موازين القوى، أساسه عزلة السلطة ووقوع انقسام فيها، ولم يقدم لها أحد خطة تشخص، ولو تقريبياً، المراحل التي سيمر فيها فعلها الثوري… إلخ، بل انطلقت كانتفاضة وطنية عامة، ضد نظام طغياني معاد لشعبه، من دون تخطيط مسبق، ومن دون أن يتخذ أحد أي تدبيرٍ من شأنه ضمان نجاحها والحيلولة دون فشلها.
ما حدث لا يشبه الأحزاب، وما كانت تعتمده مفهوماً للسياسة، جوهره مناكفة النظام وتشكيك كل طرف منها بغيره، وممارسة بعض النقد لسياسات السلطة، لحمته وسداه تخليها عن الوحدة والحرية والاشتراكية وممارسة الاستبداد. إنه لا يشبه كذلك ما كانت تعتقد أنه الثورة. عنت الثورة المجتمعية نهاية السياسة من النمط الحزبي الذي عرفته بلادنا في فترة ما بعد البعث، ونهاية دور النخب، كما تجسد في تشكيل الأحزاب القومية والاشتراكية والإسلامية … إلخ.
والآن، وفي ظل الحاجة إلى تشكيل أحزاب تسد الثغرات القاتلة، والنواقص التي ظهرت في الحراك الثوري، وأدت إلى ظواهر سلبية كثيرة تهدد بإفشاله، هل نستعيد تجربة النخب الفاشلة في تشكيل الأحزاب، لنكرر فشلها المحتم في شرط تاريخي جديد، لا بد أن نعرف كيف نفيد مما فيه من تبدل، سيلعب قطعا دوراً مهماً جداً، في نمط التنظيمات السياسية التي سيشهدها مجتمعنا، في مقبلات الأيام، وسواء انتصرت الثورة أم هزمت؟ هل نؤسس أحزاباً نخبوية في زمن الحراك المجتمعي الفريد من نوعه وغير المسبوق الذي صنع واحدة من أعظم انتفاضات زماننا الثورية، ومكّن شعباً أعزل من مقاومة نظام مجرم ومدجج بالسلاح، عمل لسحقه بالعنف، طوال نصف عقد، على الرغم مما تكبده من خسائر وقدمه من تضحيات؟
أعتقد أننا سنشهد نمطاً جديداً من التنظيمات السياسية، لا يشبه الحزب الذي اعتمدناه شكلاً رئيساً، بل ووحيداً، للعمل العام المنظم، ثم اكتشفنا أنه لم ينجز ما كان منتظراً منه ويعدنا به، وأن عدد من كانوا يخرجون منه كثيراً ما فاق عدد من ينتسبون إليه، وأن من يدخل إليه كان يخرج من السياسة، على حد قول أستاذنا الراحل إلياس مرقص. لم ينجح نموذج الحزب النخبوي في زمنٍ عبرت المصالح الطبقية عن نفسها فيه من خلاله، فهل ينجح، في عصر الحرية الذي تعدنا الثورة بتحقيقه، وفي مجتمع ستسيطر عليه الأفكار الجامعة، لا الانقسامية، حطمه النظام، ومن واجب المدافعين عنه لحمه وإعادة إنتاجه على حوامل فكرية/ نظرية وممارسات عملية، لا تشبه الفكر السوفييتي، بخلائطه الكثيرة وتداخلاته المتنوعة مع التيارات العقائدية، التي عرفها قرننا العشرون، وتأثرت به جميع المدارس والتيارات السياسية، بما فيها تلك الأكثر بعداً عنه، ومعاداة له؟.
المصدر : العربي الجديد