بدو أن قدرنا فى العالمين، العربي والإسلامي، أن نعيش، من جديد، التجربة الروسية بكل ما خلفته سابقاً من آثار سلبية ما زالت ماثلة أمامنا؟ ويبدو، أيضاً، أن آفة حارتنا هي النسيان، كما يقول نجيب محفوظ، أو كما قال موشيه دايان يوماً: “إننا لا نقرأ، وإذا قرأنا لا نتعلم”. ودعونا نستعرض محطات محددة وواضحة في التجربة الروسية مع عالمنا العربي والإسلامي، من دون أن نوغل فى التاريخ، أو ندخل في تفاصيل كثيرة.
نبدأ من الحرب العظمى المعروفة بالحرب العالمية الأولى، وكانت روسيا القيصرية، في بداية الحرب، في معسكر الحلفاء. وكانت تطمع في نصيب من تركة الرجل المريض، أو دولة الخلافة العثمانية المنهارة في ذلك الوقت، وشاركت روسيا في ترتيبات تقسيم وإعادة هيكلة المنطقة العربية التى عرفت بخطة سايكس – بيكو، وهما دبلوماسيان بريطاني وفرنسي أعداها، وشارك معهما، في البداية، مندوب روسيا القيصرية في عام 1916، وما أن نجحت الثورة البلشفية في روسيا 1917 وسقطت القيصرية، وكانت بشائر نصر الحلفاء قد ظهرت، وأصبحت الخطة قيد التنفيذ العملي، ولم يعد بيد العرب ما يمكنهم فعله، أفشى الروس خطة سايكس – بيكو للعرب بعد فوات الأوان.
ولكن المهم أن الروس تَركوا لشركائهم الإنجليز، والفرنسيين، العالم العربي الإسلامي، في مقابل دول آسيا الإسلامية التي دخلت في إطار الاتحاد السوڤييتى الجديد.
ودار الزمن، وجاءت الحرب العالمية الثانية، وما أعقبها من تطورات وصعود الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوڤييتى (السابق). والأهم، بالنسبة لنا، قرار الأمم المتحدة تقسيم فلسطين، ثم إعلان قيام دولة العدو الإسرائيلى في يوم انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين 15 مايو/أيار 1948، وليكون الروس مع الأميركان أول من يعترف بتلك الدولة التي قامت على الأرض العربية المغتصبة.
ودار الزمن، وجاءت الحرب العالمية الثانية، وما أعقبها من تطورات وصعود الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوڤييتى (السابق). والأهم، بالنسبة لنا، قرار الأمم المتحدة تقسيم فلسطين، ثم إعلان قيام دولة العدو الإسرائيلى في يوم انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين 15 مايو/أيار 1948، وليكون الروس مع الأميركان أول من يعترف بتلك الدولة التي قامت على الأرض العربية المغتصبة.
ومع بداية خمسينات القرن الماضي، هبت على المنطقة العربية موجة الانقلابات العسكرية الثورية التي رفعت شعارات التحرر الوطني والقومية والتقدمية، ووجد فيها الروس ضالتهم للنفاذ إلى المنطقة عبر صفقات السلاح، وبرامج التصنيع الكثيف، وإيجاد طبقات عاملة تشكل بروليتاريا عربية. وبالطبع، انتهت تلك البرامج بالفشل، وخلفت آثاراً مدمرة على مجتمعات عديدة، لتعارضها مع المنظومات القيمية والعقائدية للشعوب.
ثم كانت التجربة المريرة، تجربة يونيو/حزيران 1967، والدور الروسي في ترويج فكرة وجود حشود عسكرية إسرائيلية في مواجهة سورية، وتعرض سورية لخطر الغزو الإسرائيلي، ودفع مصر إلى التعبئة العامة، ثمتطور الأحداث التي انتهت بهزيمة 5 يونيو. بالطبع، لا مجال لإلقاء المسؤولية كاملة على الروس، ولكن لا يمكن إغفال دورهم، وما كاد غبار المعارك ينقشع عن أخطر هزيمة تعرض لها العرب، وما زالت آثارها ماثلة، حتى بادر الروس بالهرولة إلى مصر وسورية بدعوى الإنقاذ، وكانت دعواهم أنهم قدموا السلاح والعتاد، لكن العرب لم يحسنوا استخدامه، وبالتالي عليهم أن يخضعوا للوصاية العسكرية الروسية عبر الخبراء والمستشارين، من بقايا العسكريين السوڤييت المتقاعدين.
وبالطبع، عوّض الروس الأسلحة والمعدات، ولكن، بضوابط صارمة، تجعل من استخدامها في عمليات هجومية أمراً شديد الصعوبة، واتضحت نياتهم في معارضة حرب تحرير الأرض، باتفاقهم مع الأميركان على تسكين الأوضاع في المنطقة. وباقي القصة بين الرئيس أنور السادات والروس وقراره إبعادهم عن الجيش المصري، وعن مصر كلها، معروف. وبدون ذلك، ما كان يمكن لحرب أكتوبر أن تنجح على الجبهة المصرية، أما على الجبهة السورية، فقد اختلف الأمر كثيراً، لوجود خبرائهم.
وتستمر التجربة الروسية، وتمتد إلى أفغانستان، وهي التجربة الأقرب إلينا اليوم. كان الروس يدعمون الانقلاب والحكم الشيوعي في أفغانستان، والذى جاء بعد سقوط نظام الملك محمد ظاهر شاه، وابن عمه محمد داود خان، واستيلاء نور محمد تراقي على السلطة، وعقده اتفاقية صداقة وتعاون مع السوڤييت تتيح للحكومة الأفغانية طلب التدخل العسكري.
وفي العامين 1978 و1979، كانت المقاومة الأفغانية ضد الحكم الشيوعي قد بلغت مداها، ولم تعد الحكومة التي كان يرأسها حفظ الله أمين، بعد أن انقلب على تراقي وقتله، تسيطر سوى على العاصمة كابول، وما لا يزيد عن 20% من أراضي أفغانستان. وهنا طلب حفظ الله أمين تدخل الروس لحماية نظامه، وكان ما كان من تدفق القوات الروسية إلى كابول، بحجة أنها تلقت دعوة رسمية من الحاكم الشرعي، والباقي، أيضاً، معروف. تدفق المجاهدون الإسلاميون على أفغانستان، ودارت حروب استنزاف طويلة، استمرت عشر سنوات، حتى أعلن الروس انسحابهم من أفغانستان عام 1989.
وما أشبه الليلة بالبارحة، لا يسيطر بشار الأسد إلا على العاصمة دمشق، وما لا يزيد عن 20% من الأراضي السورية، والروس يتدفقون بقواتهم على دمشق، بدعوى تلبية دعوة من الحاكم الشرعي، وتطبيقاً لمعاهدة صداقة وتعاون سبق توقيعها فى زمن فات. كم ستبقى قوات الروس في سورية؟ وكم ستتكبد من ثمن؟ وهل ستلعب الصواريخ الأميركية ستينجر التي أمد بها الأميركان المجاهدين في أفغانستان الدور نفسه في سورية، أم ستكون مثل تلك الصواريخ بعيدة المنال عن المقاومة السورية؟
هل هناك تجارب روسية أخرى، علينا أن ندرسها ونتعلم منها؟ نعم، لكنها في مناطق أخرى، قد تكون بعيدة عنّا، لكن السلوك هو نفسه، الاقتراب المحسوب، عدم تكرار التورط بعد التجربة الأفغانية، عدم تجاوز الخطوط التي تحدّدها أميركا وأوروبا، بشكل مباشر وغير مباشر. والأمثلة كثيرة في أوكرانيا، توقفت روسيا عند شبه جزيرة القرم، وخضعت للعقوبات، والتزمت بالتفاوض في غير ذلك. في إيران، التزمت بما توصلت إليه مجموعة 5+1 بالنسبة للمشروع النووي، في أوروبا الشرقية، لم تسع إلى أي إعاقة لتوجهاتها نحو الاتحاد الأوروبي، وقبل ذلك استسلامها لهدم حائط برلين، وتوحيد شطري ألمانيا، وقبض الثمن.
التجربة الروسية، والتي فشلت عندما كان الاتحاد السوڤييتى في قوته، في حماية نظام حفظ الله أمين في كابول، على الرغم من أنف الشعب الأفغاني، لن تنجح، بالقطع، في حماية نظام بشار الأسد في دمشق، ولو أيدها كل أصدقاء الأسد.
تبقى هناك أسئلة معلقة: من الذي سمح للروس بالدخول إلى قلب المعترك السوري – العراقي بهذا الشكل؟ وما هو المقابل بالضبط؟ ما هي حدود الحركة والتنسيق بين الروس والأميركان والأتراك وإيران، وأيضاً العدو الإسرائيلى، على أرض العرب، في الشام والعراق؟ ولعله من نافل القول، للأسف، أن نتساءل عن موقف، أي موقف، لأي طرف عربي. والسبب بسيط، هو أن العرب، وفقهم الله وعافاهم، مشغولون بحربهم المقدسة ضد الإرهاب.. المحتمل.
المصدر : العربي الجديد