كان لافتا الغياب الكلي لإيران عن الاجتماع الذي دعا إليه وزير الخارجية الأميركي جون كيري مؤخراً، لبحث الحلول الممكنة للأزمة السورية والذي تضمن دعوة السعودية وتركيا والأردن وروسيا.
استثناء إيران من هذه الدعوة يعكس غياب دورها في سوريا، وقدرتها على التأثير في الوضع الميداني السوري، ما يعني أن التصعيد الأخير ما هو سوى الفصل الأخير من الوجود الإيراني في سوريا.
لعل إيران تسعى من خلال رفع حجم مشاركتها الميدانية في سوريا إلى إعادة ترتيب بيتها الداخلي، واستخدام الجحيم السوري لتذويب شخصيات وقادة عسكريين يمكنهم أن يمارسوا تشويشا ما على مفاعيل الاتفاق النووي. ليس صدفة أن تشهد الفترة الأخيرة مقتل قياديين بارزين في الحرس الثوري الإيراني من قبيل حسين همداني وفرشاد حسوني وحميد مختار.
الخروج الإيراني من سوريا يستتبع حكما خروج حزب الله مع فارق كبير بين عنوانيْ الخروج وأهدافهما. الخروج الإيراني يأتي خدمة لمصلحة استمرار النظام وضمن شبكة تسويات تضمن لإيران الحد الأدنى من مصالحها، وتسمح لها بالتفرغ لتمتين نظام الحكم وحل المشاكل الداخلية. خروج حزب الله مأساوي بكل ما للكلمة من معنى فهو ليس طرفا في أي تسوية، ولا أحد يعترف به ولا بمصالحه، كما أن عودته إلى لبنان مهزوما تضعه أمام شبكة استحقاقات ضخمة تكاد تكون أكبر من قدرته على الاحتمال.
من هنا يجد الحزب نفسه مضطرا لرفع سيف التصعيد في وجه جميع اللبنانيين، والتهديد بإسقاط الحكومة والخروج من الحوار.
السؤال حول ارتدادات خروج حزب الله من سوريا هو السؤال الأبرز على الساحة اللبنانية. الإجابة عليه تكاد تنحصر في احتمالين.
الاحتمال الأول هو أن يلجأ حزب الله إلى العقلانية، ويحاول العودة إلى السياسة وانتزاع موقع من داخل التركيبة اللبنانية كمكون أساسي فيها، ما يتطلب منه خلع ولائه لإيران وإعادة إنتاج لبنانيته والنطق باسمها.
يحاول الحزب تحقيق موقع متميز في التركيبة اللبنانية عبر إصراره مع حليفيْه، رئيس المجلس النيابي نبيه بري والجنرال ميشال عون، على إصدار قانون للانتخابات النيابية على أساس النسبية. يعتقد الحزب أن الضغط في سبيل إنجاز هذا القانون من شأنه أن يكفل له الفوز مع حليفه العماد عون بأكثرية نيابية، ينتزع من خلالها الحق في حكم البلاد بطريقة شرعية، يستطيع الدفاع عنها عربيا ودوليا.
يبني هذا الطموح منطقه على واقع يراه الحزب غير قابل للتغير بغض النظر عن الظروف، وهو واقع سيطرته على الغالبية المطلقة من الشيعة، الذين يشكلون في مناطق وجودهم كتلا متراصة لا مجال لخرقها، في حين يتوزع السنة على مجموعة من الولاءات والزعامات، ما يجعلهم عرضة للاختراق والتفكك. تاليا يؤمن الحزب أن أي انتخابات ستجري على أساس النسبية ستمنحه حصرية التمثيل الشيعي، في حين لن يكون تيار المستقبل سوى واحد من أطراف سنية عديدة ستسجل حضورها النيابي ربما للمرة الأولى. قد يبقى تيار المستقبل صاحب الحضور السني الأبرز ولكنه لن يكون الوحيد، ولا يستطيع مع حلفائه المسيحيين من قبيل حزب القوات اللبنانية وحزب الكتائب تشكيل أكثرية نيابية.
يحرص هذا السيناريو على إهمال تداعيات دخول حزب الله إلى سوريا وما أنتجته، وما الذي من الممكن أن تتسبب فيه، خصوصا بعد خروج أصوات مهمة من قيادات الحزب تعترض على استمرارها. هذا الوضع المستجد سمح بخروج تحليلات تقول إن قياديي الحزب الذين يسقطون بكثافة في الفترة الأخيرة إنما تتم تصفيتهم بناء على أوامر إيرانية، لأن المرحلة لا تسمح بالاعتراضات، ولأن التصعيد الذي يسبق التسويات سيتسبب في سقوط عدد كبير من القتلى قبل أن تذهب الأمور في اتجاه حلول نهائية.
يبدو هذا الطموح صعب التحقق، لأن حزب الله لا يستطيع إنتاج لبنانيته ولو بشكل كاريكاتوري يصلح للتسويق في صفوف جماعته في وقت قصير، بل يحتاج إلى فترة تكون فيها التطورات المتسارعة قد سبقته.
كذلك لا يبدو مفهوما لماذا ستسمح القوى التي يبادلها الحزب العداء، لا بل القتل والاغتيال، بتمكينه من الإمساك بمفاتيح البلاد عبر فرض قانون انتخابي يناسبه، وخصوصا بعد فقدانه جزءا كبيرا من قدرته على التهديد والتهويل. يضاف إلى ذلك كله سؤال حول الساحة الشيعية، وهل ستبقى ثابتة على الولاء له بعد أن يَذْوي خطاب النصر الدائم، وبعد أن يتبين لها بما لا يترك مجالا للشك عمق ومدى الاحتقار الإيراني للحزب وناسه، وشيعة لبنان والشيعة العرب بشكل عام.
السيناريو الثاني والذي أراه أكثر واقعية هو أن يركن حزب الله إلى الجنون الشامل فيعمد إلى التصعيد وسد كل منافذ السياسة، والاقتصاد والحياة العامة في لبنان بالقوة والتهديد، واتخاذ البلد بما فيه من ناس رهينة يفاوض على رأسها.
ربما يكون هذا الخيار غير منطقي، ولكن ما يجعل التحليل يميل إلى تبنيه هو كون الحزب قد أسس لغياب المنطق وإعدام السياسة، وجعل هذا النهج خلاصة لأيديولوجيته القائمة على المبالغة والمغالاة.
هكذا صار كل شيء إلهيا، وحتى العيش اليومي المجبول بواقع فظ من الحرمان والبؤس، لم يستطع النجاة من الكناية الإلهية التي غلفت كل شيء بطابع سحري أسطوري، صار مصدرا للذات، والتفكير وتدبير شؤون الوجود والعيش.
أدمن ضحايا سلطة حزب الله على الإلهية، ولم يعودوا قابلين للأرضية، بمعنى إمكانية التفاهم مع الوقائع والتغيرات، ومع ما هو عادي ومألوف وقابل للتشارك.
قد يعمد الحزب إلى قيادة حملة ترهيب عنيفة تطال الصوت الشيعي المعارض قبل غيره، وخلق اضطرابات أمنية داخلية. يستطيع الحزب الشروع في تنفيذ هذا السيناريو دون أن يستطيع التحكم بمساراته ولا بنهاياته، ولكن يرجح أن يعتمده رغم كل هذه المعطيات التي ليست خافية عليه، وذلك لأن الأزمة التي يواجهها حاليا لا تتعلق بعنوان جزئي، أو بمعركة هامشية، بل هي أزمة وجود.
المصدر : العرب