أطلق إعلان الجيش الروسي أمس انتحار أحد جنود المنتشرين في سوريا عدّاد أول خسارة رسمية على الأراضي السورية منذ بدء تدخل موسكو العسكري في نهاية أيلول/سبتمبر الماضي. وزارة الدفاع الروسية أوضحت أن الجندي الذي يعمل بصفة تقني انتحر بسبب «مشاكل مع فتاة في حياته الخاصة».
أحد الجنود الذين خدموا مع فاديم كوستنكو، المنتحر حسب السلطات الروسية، نفى فرضية الانتحار، وهو أمر، إذا لم يبعث الشكّ في الرواية الرسمية الروسية، فهو يفتح الباب لاحتمالات أخرى لوفاة الجندي، قد يكون بينها احتمال مقتله خلال النزاع العسكري الجاري أو ربما اغتياله.
لا يتوقع أحد أن تؤدي هذه الوفاة إلى أي تأثير يذكر في قرار سلطات الكرملين، وباستثناء عائلته وأصدقائه الذين سيفتقدونه ربما، فسيعتبر موته، بل وربما موت العشرات غيره من الجنود الروس، لو حصل لاحقاً، أمراً مجيداً في سبيل توطيد أسس الإمبراطورية الروسية العتيدة، كما أن الأمر لن يغيّر من مواقف نواب «الدوما» الروس، أو من دعم النخبة السياسية الروسية للحرب.
تقول صحيفة «فايننشال تايمز» في عددها الصادر الاثنين الماضي إن تكلفة التدخل العسكري الروسي في سوريا تتراوح بين 2.3 إلى 4 ملايين دولار في اليوم، وهذا المبلغ يشكل قسطاً بسيطاً من ميزانية الدفاع الروسية التي تبلغ هذا العام قرابة 51 مليار دولار، وبالتالي، والقول للصحيفة، فإن مصروفات الحملة العسكرية السورية ستختفي (كما الجندي المنتحر) في «الثقب الأسود لميزانية روسيا العسكرية».
لا يستغرب، والحالة هذه، أن تتحرّك الدبلوماسية الروسية بثقة وأن تردّ على كل خطوات خصومها الافتراضيين بخطوات مكافئة في الاتجاه الآخر، فبعد لقاء يوم الجمعة الماضي الذي عقده وزير خارجيتها سيرغي لافروف مع نظرائه الأمريكي والسعودي والتركي، طرح لافروف أمس إجراء جولة جديدة من المفاوضات بمشاركة إيران يوم الجمعة المقبل، كما طرح إطاراً تمثيليا يضم مصر إلى جانب إيران، والدول المجاورة لسوريا، وهو إطار يعكس ثقل روسيا المستجد في سوريا والمنطقة، ويواجه الوزن السياسي لتركيا بمصر، والسعودية بإيران، كما يوازن الأردن، القريب من دول الخليج، مع لبنان الذي يحتكر «حزب الله» سياسته الخارجية.
بحسب تصريحات كثيرين من معلقيها وإعلامييها فإن روسيا جعلت من المجال الجوي السوري منطقة حظر جوّي خاصة بها، وأنها أجبرت واشنطن على القبول بهذا الواقع، ومن قرأ تصريح وزير الدفاع الأمريكي أمس أن «الجيش الأمريكي سيواصل دعم القوات المحلية بضربات جوية أو نشاط مباشر على الأرض»، سيفهمه باعتباره استمراراً لدعم «قوات الحماية الشعبية» ذراع حزب العمال الكردستاني التركي في سوريا، لا دعماً لمعارضي النظام السوري، مما يعني – من دون الحاجة إلى الكثير من تدوير الزوايا – أن التنسيق الجوّي الروسي الأمريكي، هو نموذج للتنسيق السياسي أيضاً، وأن ما يفعله الأمريكيون عملياً هو الضغط على حلفائهم لقبول فهمهم الضيّق للقضية السورية، الذي يمرّ ضد مصلحة تركيّا والشعب السوري، ويراكم الصعوبات على المعارضة السورية السياسية والمسلحة، ويحاول إقناع السعودية بحسنات بقاء النظام السوري خلال «الفترة الانتقالية»، التي هي، بحسب هذا النظام، لن تبدأ «حتى التخلص من الإرهاب».
هناك جانب مخفيّ يتلاعب الأمريكيون والروس بحيثياته، وهو يشبه انتحار الجنديّ الروسيّ، غير أن هذا التلاعب، يتجاهل فعلاً عناصر الأزمة السورية، ولا يفعل غير أن يفتح شهية «الثقب الأسود» للمنطقة لـ»انتحار» المزيد من الجنود.
وإلا ما الذي يفسّر أنه رغم وجود تحالفين عالميين وإقليميين مزعومين ضد «الدولة الإسلامية» فقد تمكنت من دخول بلدة «السفيرة» حيث توجد أكبر معامل تصنيع أسلحة النظام السوري أمس؟.
المصدر : القدس العربي