لا حضور لسورية في لقاء فيينا المخصص لسورية. وفيما كان المشاركون يدلون باقتراحاتهم لما يجب أن يكون في سورية، كان نظام بشار الأسد يسجّل مجزرة أخرى في سجله الأسود، حاصداً بضع عشرات من الضحايا والمصابين بتكرار القصف على سوق دوما، كما فعل مراراً خلال الشهور الأخيرة.
لم يشر أحد في فيينا إلى هذه الجريمة، لا جون كيري في مؤتمره الصحافي المشترك مع سيرغي لافروف، ولا الأخير بطبيعة الحال، ولا حتى المبعوث الأممي البائس ستيفان دي ميستورا الذي جلس بين الوزيرين وحرص خصوصاً على إبداء سروره لمشاركة إيران أخيراً في مؤتمر دولي للبحث في إنهاء الأزمة السورية.
في أي لقاء مماثل مقبل، لا بدّ من مساءلة روسيا وإيران طالما أنهما تمثّلان النظام، وهما وصيّتان عليه، وتدخلتا أساساً لدعمه ومنع سقوطه، لكن استمراره منذ منتصف 2011 حتى الآن لم يعد ليعني شيئاً آخر غير المجازر. وإذا كانت دولة متهوّرة مثل إيران شجعته على هذا النهج السقيم، فماذا عن دولة مثل روسيا تدخلت في سورية لتستعيد صفتها كـ «دولة عظمى».
عندما تحدّث فلاديمير بوتين عن شعار دعم «الحكومة الشرعية»، هل كان يعني ما يحصل منذ أسابيع من قتل جماعي في قصف كثيف على غوطتَي دمشق. وعندما سعى لافروف إلى إقناع نظيره الفرنسي لوران فابيوس بعدم التقدم إلى مجلس الأمن بمشروع قرار يحظر القصف بالبراميل المتفجّرة، هل تعهّد ضمان عدم استخدام هذا السلاح أم أنه كان يدافع عن «حقّ» النظام في أن يقتل بالطريقة التي يريدها. وعندما تبرع فيتالي تشوركين، المندوب الروسي في الأمم المتحدة، بنفي قاطع لاستخدام النظام البراميل، هل كان يتعمّد الكذب أم أن أحداً لم يخبره بأن أكثر من عشرين برميلاً انهالت في يوم واحد على داريا وحدها؟
يبدو أن ثمة دافعاً رئيسياً للتدخل الروسي لم يُشَر إليه حتى الآن، وهو أن الكرملين وجد أن نظام الأسد لم يقتل ما يكفي من السوريين، ولم يدمّر ما يكفي من العمران، ولم يهجّر ما يكفي من أبناء الشعب. بل يبدو المشهد حالياً كما لو أن النظام استأجر دولة «عظمى» لتشاركه جرائمه وتساهم معه في القتل والتدمير والتهجير.
فكل جريمة جديدة، كل مجزرة، هي تلطيخ إضافي لسمعة جيش تقول موسكو إنها معنية بتوحيد صفوفه وإعادة الاعتبار إليه، وتتصرّف على أنه ورقتها القوية الرابحة على حساب الميليشيات – «ورقة إيران»، لكن نهجها الأهوج قد يبدّد مسعاها… فهل اعتزم الأسد تعطيل هذه الورقة الروسية، سواء لأنه لمس أن موسكو تحاول استقطاب «الجيش الحرّ» والضباط الذين انشقّوا ولم يحاربوه، وربما لأنه يشعر بأن تعويم الجيش خطوة لا بدّ منها نحو إيجاد «البديل» أو الترتيب لإيجاده.
وسواء صحّ هذا التقدير أم لا، فإن روسيا أقحمت نفسها في سياق حرب ذهب فيها نظام الأسد إلى أقصى إجرامه وكانت طوال الوقت شريكه غير المباشر. وإذا صحّ ما يُتَداول عن أن موسكو لا ترحب بلجوء الأسد إليها، تجنّباً لإشكالات قانونية وأخرى سياسية تسيء إلى دورها في «المرحلة الانتقالية»، فما المصلحة التي تسعى إليها، حين تصبح شريكه المباشر في القتل أو حين تعده مثلاً (كما نُقل عنها) بدمار في إدلب يساوي عشرة أضعاف خراب غروزني (عاصمة الشيشان). هل هذه هي الطريقة التي تثبت بها روسيا اختلافها «الإيجابي» عن الولايات المتحدة ومساهمتها الفارقة في تصويب نظام دولي ترفضه بسبب الهيمنة الاميركية عليه؟
حاججت روسيا على الدوام بأنها تريد الحفاظ على «الدولة» و «الحكومة» و «المؤسسات»، وأصبح واضحاً اليوم أنها كانت دائماً ترى «الدولة» في «النظام»، و «المؤسسات» في الجيش، مع علمها اليقين بأن النظام لم يعتدّ يوماً إلا بزمرة السلطة التي تنفّذ نزواته الاستبدادية، ولا قيمة عنده ولا احترام لدولة أو حكومة أو مؤسسات. ليس لدى الدولتين المتمسكتين بهذا النظام، روسيا أو إيران، أيُّ نموذج تجذبانه إليه ليكون مقبولاً من شعبه وجيرانه ومحيطه.
وقد باشرتا للتوّ مناورات مشتركة لاستدراج قبول دولي ببقائه، أو بـ «سورية المختزلة» التي تريدان تحصين سيطرته عليها، سواء سمّيت «دولة الساحل» أو «إقليماً» أو اعتُبرت إحدى «مناطق النفوذ» المطروحة لتوزّعها بين أطراف جالسة إلى طاولة فيينا. وتلعب هواجس عدّة في المساومات، من خطر الإرهاب إلى أزمة النازحين إلى احتمالات الانزلاق في «حرب بالوكالة» ومواجهات إقليمية.
لذلك تبدو «عملية فيينا» بداية الطريق إلى حل نهائي بسيناريوات متنافسة يستغرق كلٌ منها وقتاً غير قصير. وكان اللافت أن الإيرانيين دخلوا بخطابين غير متطابقين، إذ سرّبوا خارج القاعة تأييدهم لفترة انتقالية من ستة شهور وقال نائب الوزير حسين أمير عبداللهيان إن إيران لا تصرّ على إبقاء الأسد في السلطة إلى الأبد، أما الوزير محمد جواد ظريف، فاقترح انتخابات في أجل قريب وكرر الدعوة إلى «حل وسط»، وما لبث المرشد علي خامنئي أن حدّد «مستقبل سورية» بمسارين هما «انتهاء الحرب وإجراء انتخابات».
لا أحد يتخيّل مثل هذا السيناريو في ستة شهور، لكنّ الإيرانيين أرادوا أن يسجّلوا دخولهم المعترك الدولي – السوري بأطروحة هي أقرب إلى المناورة، وإذا التقت مع اقتراحات الجانب الروسي وتركيزه على الانتخابات، إلا أنها تزايد عليها بطرح مهلة زمنية ولو غير واقعية. لماذا؟ أولاً لأن الحديث عن ستة شهور فقاعة دعائية تخاطب الاستعجال الغربي بمقدار ما تشير إلى «قدرة» طهران على الإنجاز، وثانياً لأن إيران نفسها مستعجلة أيضاً للانخراط في مساومة على ثمن مساهمتها في الحل، وثالثاً وهو الأهم لأنها وروسيا تتطلعان إلى «مرحلة أسدية ولو من دون الأسد» أكثر «شرعيةً» من المرحلة الحالية، بل تبدوان موقنتين بأن أي انتخابات ستكون لمصلحتهما.
دُعيت إيران إلى «فيينا 2» من دون أن يُطلب منها الاعتراف ببيان «جنيف 1»، فهي لا تزال ترفضه. ولهذا الرفض مغزى يُستدَلّ عليه من الحرص الروسي – الإيراني على عدم تجديد الجدل حول «رحيل الأسد»، والترويج لدخول فوري في «مرحلة انتقالية» بتشكيل حكومة من الأطراف الراغبة في العمل تحت رئاسة الأسد كي تمهّد لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بإشرافه، أي بتجاوزٍ متَوافقٍ عليه لـ «تسوية جنيف» ومفهومها اللذين يفرضان البحث المسبق في مصير الأسد.
في أي حال، هذه ليست سوى تمنيات موسكو وطهران، إذ تتظاهران بتسهيلات وتنازلات وهمية، وتصوّران التسوية كما لو أنها جاهزة لا لشيء إلا لأنهما تتعهدانها. وهذه «التمنيات» هي التي بنى عليها دي ميستورا خطته لبناء حل سياسي يرضي النظام وموسكو وطهران.
غير أن الحسابات السياسية في كواليس فيينا قد تفاجئ الروس، كما فاجأتهم الحسابات العسكرية الخطأ للمعارك البرّية، حين شنّوا عشرات الضربات الجوّية لدعم تقدّم قوات النظام وإيران، وعندما فحصوا أحوالها وأعدادها ولمسوا إخفاقاتها، فضّلوا التريث لئلا تُحسَب هزائمها عليهم. وجدوا أنفسهم في الحال التي واجهها الاميركيون، أي عملياً من دون قوات على الأرض لاستثمار المساعدة الجوّية.
لذلك يحاول النظام الآن تعويض هذا النقص بجلب موظفي الدولة ممن هم تحت الـ 42 عاماً إلى التجنيد والاحتياط، فهؤلاء لا يزالون يعوّلون على الرواتب التي يدفعها لهم، وقد تتوقف إنْ هم تهربوا من الخدمة. لا شك في أن هذا الواقع ينعكس على المشروع الأساسي الذي كان يطمح إلى استخدام قوات النظام وإيران لمحاربة «داعش» وإخراجه من شمال شرقي سورية. وهذا وحده كافٍ لتفسير عودة الكرملين سريعاً إلى تنشيط ورشة الحل السياسي.
المصدر : الحياة