يوم تسلَّم الدكتور بشار الأسد رئاسة الجمهورية في سوريا خلفاً لوالده الراحل حافظ الأسد قبل نحو 15 سنة أعلن لشعبه وللمجتمع الدولي وخصوصاً لزعيمته أميركا رغبته في تحقيق انفتاح سريع على الغرب وعلى العالم، واستعداده لقيادة بلاده نحو الحداثة ولتطوير النظام الحاكم فيها منذ 1970 بحيث تُحترم حريات الناس وحقوقهم وخياراتهم السياسية وغير السياسية. صدَّق المجتمع الدولي ذلك وأكّد جاهزيته للمساعدة. وصدّق الشعب السوري فكان “ربيع دمشق”.
لكنّه كان قصيراً، إذ تحرّك “الحرس القديم” والمستمر للنظام، وشرح للرئيس الشاب أخطار انفتاحه على النظام الذي قام على قواعد أربع هي حزب البعث والجيش و”الطائفة” و”العائلة”. لكن الأسد الابن لم يقتنع بحجج هؤلاء فتابع “تساهله” حيال التحرُّك “الحرّ” للناس. كما لم يقتنع “الحرس القديم” بموقفه فاتخذ مواقف وإجراءات سرّعت “الهيجان” السوري الليبرالي والديني. وجعل ذلك دمشق وغيرها مسرحاً لتجمُّعات دينية حاشدة تُقفل الشوارع كل يوم جمعة للصلاة، ومسرحاً لحراك مدني – سياسي – شعبي.
وعاد هؤلاء إلى الأسد الأبن محذّرينه من عدم القدرة على ضبط الأوضاع إذا خرجت التحرُّكات عن السيطرة. فاستمع إليهم، لكنه بقي على موقفه إلى أن أُجريت انتخابات بلدية أكثر “حرية” من أي انتخابات سابقة. لكن المفاجأة التي لم يتوقّعها كانت فوز “الإخوان المسلمين” مباشرة ومداورة بغالبية أعضاء بلدية دمشق. دفع ذلك الأسد الابن إلى تجميد العملية الإنتخابية، وإلى تنفيذ خطة مُحكمة لوقف مسيرة التحديث. وعندما روجع بذلك من المجتمع الدولي قال: لا أستطيع القيام بانفتاح سريع كالذي تريدونه.
لماذا الكلام على ذلك الآن؟
لأن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تمرّ الآن في مرحلة شبيهة بالتي مرّت بها حليفتها سوريا بعد تولّي الأسد حكمها. هذا ما يقوله متابعون جدّيون لأوضاعها منذ قيامها عام 1979. فهي وبعد عقود من العداء المطلق لأميركا وبترجمته عملياً عبر نسجها تحالفات شرق أوسطية مهمة مع دول معادية لها، وعبر تصدير ثورتها الإسلامية، كما عبر الحرب العسكرية وإن بالواسطة، فهي بعد كل ذلك لا تستطيع رغم توقيع الاتفاق النووي، أن تكوِّع 180 درجة كما يقال أو على الأقل أن تقرِّر سياسة مُهادِنة لأميركا ثم منفتحة عليها ولاحقاً متعاونة معها لحلّ أزمات المنطقة وحروبها.
فهي من جهة، وهذا أمر تختلف فيه عن سوريا، عبّأت شعبها ضد أميركا عقوداً، ولا تستطيع إقناعه بسرعة بأن “الشيطان الأكبر” صار “الصديق الأكبر” أو “الشريك الأكبر”. ذلك أن غالبيته لا تثق بأميركا ولا تحبها رغم اقتناعها بالحاجة إلى تعامل ما معها. فضلاً عن أنها تريد ممارسة دور إقليمي أكبر مما تستطيع أميركا قبوله وخصوصاً في ظل رفض عالم عربي بغالبيته له، لاعتباره إياه سيطرة وهيمنة قومية ومذهبية.
إلى ذلك هناك داخل النظام الإسلامي كما داخل الشعب في إيران فريقان، الإصلاحيون والمتشدّدون. الأول يعرف أن الشعب يريد من النظام الالتفات إلى مصالحه الاجتماعية والحياتية وإلى الاقتصاد الوطني بعد سنوات من التعبئة والحروب المباشرة وبالواسطة ومن الحرمان، وإن كان الانفتاح على أميركا إحدى الطرق إلى تحقيق ذلك، ولا سيما بعد اعترافها بنووية إيران وبدور إقليمي لها مهمّ لكن يُحدَّد بعد حوار معمّق. ويضم هذا الفريق نسبة كبيرة من الشباب.
والثاني يخاف الانفتاح السريع على أميركا والغرب حرصاً على استقلالية تجاه الدول الكبرى كلها، وعلى دور إقليمي متشعِّب وواسع، وعلى نظام لا بد أن يتأثّر “بالعالم” الغربي الأمر الذي يضعف قبضته أو صفته الدينية ويمهِّد الطريق لبدائل عدة له. طبعاً الولي الفقيه آية الله علي خامنئي ينتمي أساساً إلى الفريق الثاني لكنه بخبرته وحنكته واطلاعه على أوضاع بلاده والمنطقة والعالم يعرف أن “الانعزال” غير ممكن ويرفض في الوقت نفسه الاستسلام.
ولذلك فإنه يحاول الإفادة من “تصارع” الفريقين إذا جاز التعبير للوصول إلى الموقف الذي يؤمِّن مصالح بلاده ونظامها، ويمكّنُها في الوقت نفسه من استكمال عودتها إلى المجتمع الدولي عضواً فاعلاً. ويعني ذلك أن حلّ المشكلات والأزمات والحروب التي إيران طرف فيها سيلزمه وقت طويل. فهي كانت معقّدة أساساً جرّاء غياب التدخُّل الدولي المباشر فيها. وأصبحت الآن أكثر تعقيداً بعد تدخُّله مباشرة فيها.
المصدر : النهار