حصدت هجمات باريس ليلة الجمعة الماضية مئات القتلى والجرحى من الفرنسيين إضافة إلى قتلى من بلدان أخرى منها بريطانيا وتركيا وتونس وبلجيكا والبرتغال. الاعتداءات الإرهابية، كما هو معلوم، ضربت ستة مواقع تضم مسرحا وملعبا رياضيا ومطاعم ومقاهي، وتجمع مواطنين مدنيين من الشباب والكبار والنساء والأطفال والأسوأ أنها جاءت بعد هجوم سابق في العاصمة نفسها في شهر كانون الثاني/يناير الماضي استهدف صحيفة «شارلي إيبدو» ومتجراً يهوديا.
هذه الهجمات التي استهدفت الأبرياء، ستؤدي، عملياً، إلى تصاعد دعوات الحرب ضد الجماعات الإرهابية من جهة، لكنها أيضاً ستعزز معسكر اليمين المتطرف في الدول الغربية، وتقوّي آليات الطغيان في الدول العربية.
وإذا كان حجم الهجوم مساء الجمعة يدلّ على ارتفاع القدرات التنظيمية والعسكرية والاستخباراتية للمهاجمين، فإن هذا يعني، في الوقت نفسه، وجود فشل أمنيّ كبير مواز وغير مسبوق من السلطات الأمنية الفرنسية، وكانت الإهانة السياسية والأمنية كبيرة بمهاجمة «ستاد دو فرانس» الذي كان يشهد مباراة ودية بين فرنسا وألمانيا يحضرها رئيس الجمهورية الفرنسية نفسه.
وإذا كانت جهة الاتهام معروفة ومتوقعة (وقد تفاخر مسؤولون في بغداد بالقول إنهم أبلغوا فرنسا بتلك الهجمات!) فمن المفروض أن تتحمل السلطات السياسية الفرنسية مسؤولية هذا الإخفاق الفظيع في حماية مواطنيها، والذي يقع على عاتقي وزير الداخلية بيرنار كازنوف، ورئيس الوزراء مانويل فالس، اللذين كانا في المنصبين نفسيهما أثناء حصول حادثة «شارلي إيبدو».
غير أن تصعيد مستوى عمليات «الدولة الإسلامية» وتحمّل المسؤولية من قبل السلطات السياسية ليسا إلا جانباً «تقنيّا» من المسألة التي تحتاج، بالأحرى، إلى مراجعة سياسية شاملة، من فرنسا أولا، ومن العالم ثانيا.
على الصعيد الفرنسي تعلن هجمات باريس و»شارلي إيبدو» عن فشل للدولة نفسها، وليس لقواها الأمنية فحسب، وهو فشل يعود إلى أيام احتلال فرنسا أيّام النازيين، ثم تحريرها بقوّة الحلفاء، وتأثير ذلك على تأسيس الجمهوريتين الرابعة (عام 1947) والخامسة (عام 1959) مع بداية حكم شارل ديغول.
بدلاً من تعلّم دروس الاحتلال القاسية التي تعرّضت لها فرنسا عومل الجزائريون الذين هبوا للاحتفال بانتصار الحلفاء عام 1945 بالقمع الرهيب والمجازر التي استمرت سنة كاملة وأسفرت عن سقوط عشرات الآلاف من الضحايا غالبيتهم من المدنيين.
غير أن هذا كان يمكن أن يترك للتاريخ الذي قد يجد فسحة للتسويات والمصالحات والتسامح لولا أن سرديّة الاحتلال استمرّت، صعوداً مع المهاجرين القادمين من شمال إفريقيا إلى بلاد الحرية والإخاء والمساواة، ليجدوا بدلا منها العنصرية المستشرية في عمق المؤسسة السياسية الفرنسية، والتهميش، وحياة الغيتو والضواحي الفقيرة، والإهانة المركزة لثقافاتهم ودينهم، ونزولاً مع محاولات التحكم المتواصل في بلدانهم الأصلية اقتصاداً وسياسة ونفوذاً.
إلى ذلك كلّه، تتحمّل فرنسا، مع المنظومة الغربية عموماً، مسؤولية كبيرة في وجود وحماية إسرائيل التي كانت، منذ تأسيسها، عاملاً أساسياً في كسر إمكانيات التطوير والحداثة العربية، وفي تأجيج النزاعات والحروب والانقلابات، وفي دوام ظلم رهيب وقع على الشعب الفلسطيني وتأثرت به البلدان العربية كافّة.
إن دلالات هجمات باريس الجديدة من الضخامة بحيث لا يمكن للنخب الغربية، لو أرادت الخروج من الدائرة الجهنمية للعنف العالمي، ألا تخضع سياساتها لمراجعة جذرية، وعلى رأس ذلك دورها الكاسر والمخلخل للعالم الإسلامي في أفغانستان والعراق، الذي أنتج موجتين مضادتين كبيرتين من الإرهاب، وأساليب تعاملها العسكرية والأمنيّة مع القضايا السياسية المعقدة في الدول الأوروبية، ومساهمتها في التغطية على دور إسرائيل في تجذير التطرف والراديكالية في العالم العربي والإسلامي، والتواطؤ مع الأنظمة المستبدة ضد شعوبها.
ردود الفعل السياسية والإعلامية العالمية لا تدلّ أبداً على أن مراجعات كهذه في طريقها للظهور، بل إن بعض الدول، كإسرائيل، والنظام السوري، وروسيا، وإيران والعراق ومصر سارعت إلى اعتبار نفسها حماة للعالم من الإرهاب، وأخذت تنصح فرنسا في سبل القضاء عليه، وبدأت صحف مثل «التايمز» اللندنية مثلاً، في تحريض القرّاء على اللاجئين السوريين، وأخرى على الفلسطينيين، فيما حمّلت وسائل إعلام عربية تركيا، التي تتعرّض هي نفسها لهجمات التنظيم، مسؤولية الهجمات الفرنسية!
تنظيم «الدولة الإسلامية» لا يحتاج إلا إلى شيئين ليستمر في إجرامه المدمّر: 1- إرهاب الدول الذي يتجاهل حقائق الظلم والاستبداد والفقر والاحتلال، و2- شعوب مدفوعة إلى أقصى اليأس.
المصدر : القدس العربي