عرفت سورية طوال عقدين سبقا الثورة “طفرة” درامية، قوامها جهود استبدلت نقد السياسة الممنوع بنقد اجتماعي مفتوح، تناول جوانب حياة المجتمع السوري اليومية، وتعامل بواقعية مبدعة مع مشكلات عامة، واكب، بمقولاته وسوية وعيه، والحلول التي اقترحها لها، تطور الواقع الشعبي، وعالج تصريحاً وتلميحاً مشكلتي سورية الرئيستين، حكمها الاستبدادي/ القمعي، والظلم الناجم عن التفاوت الاجتماعي، ورأى في الحرية والعدالة الاجتماعية المطلبين اللذين تبنتهما ثورة الشعب في مارس/آذار من عام 2011 الرد عليهما.
هذه “الطفرة” الدرامية التي تفاعلت بإيجابية مع أعمال سينمائية ومسرحية مميزة، أنجزها كتاب وكاتبات تلمسوا مشكلات شعبهم وآلامه، وتابعوا ما واجهه من أزمات متفاقمة، فغطت نصوصهم المتعاطفة معه جوانب حياته المتنوعة، ومخرجون ومخرجات دخلوا إلى عوالم مواطنيهم اليومية، وممثلون وممثلات امتلك كثيرون منهم مواهب مميزة، أتقنوا بفضلها تجسيد أدوارهم، حتى أنك كنت تعتقد، وأنت تشاهدهم، أنهم لا يمثلون، بل يعيشون حياتهم أمام الكاميرا، وفنيون برعوا في توليف الأعمال الدرامية ضمن أشكال فنية، ملأتها بالقوة والوضوح. ومن تابع ما كان يقدم خلال أعوام من مسلسلات وسهرات تلفزيونية، كان يجد نفسه أمام أعمال تكشف مكنونات عوالمه، العامة والخاصة، في أبعادها المجتمعية المباشرة ودلالاتها المتشعبة التي شرحت أوضاعه، وحثته على تأمل أحواله وتشابكاتها مع وضعه الخاص، بصفته وضعاً عاماً، ووضعت يدها على مضمراته التي تتخطى ذاته إلى سواه، وتخصه من دون أن تقتصر عليه، ويعني تفاعله معها وعيه بأحواله وانفكاكه عن النظام الذي فرضها عليه، وتجاوز الفصام الذي جعل منه شخصين: واحد له معاد للسلطة، وآخر لها معاد له.
لم يكن في المجتمع السوري قوى تستطيع تزويده بوعي ثوري، لأن أحزاب المعارضة ضعيفة ومنفصلة عن الشعب، وحزب السلطة ينزع السياسة من المجتمع، بينما يتكفل بالباقي جهاز قمع يكتم أنفاس الجميع. في هذه الأجواء، نقلت الدراما السورية السياسة إلى الشعب، وأعادت الشعب إلى السياسة، وهيأت النفوس لمناقشة واقعها القائم ورفضه، في مستواها الاجتماعي /الشخصي أولاً، ثم في المستوى العام، وصولاً إلى تخلق بيئة ثورية، كان حراك المجتمع المدني قد شخّص جوانب منها، حين ربط دور الفرد السياسي برهانٍ وحيد هو الحرية، يستطيع تحويل شؤونه الخاصة إلى شأنٍ عام، والشؤون العامة إلى شأنه الخاص، ورأى أن وصول الأفراد إلى هذه الحال يعني دخولهم، أفراداً ومجتمعاً، إلى أجواء ثورية، قابلة للانفجار في أي وقت. قدمت الدراما أعمالاً أثبتت أن انعدام الحياة السياسية لا يعني موت السياسة، وأن مدخل الفن المجتمعي إلى الشأن العام يعوّض عن غياب المعارضة المنظمة، ويؤسس نمطاً من الوعي، إذا تملكه الفرد، خرج من عالم النظام، ودخل غالباً إلى عالمٍ، هو العتبة الأولى لتمرد مجتمعي، يضمر احتمالات ثورية حقيقية.
بعد الثورة، انتبه النظام إلى أهمية ما فعلته الدراما السورية، واعتبر الفن والفنانين من جملة أعدائه، فقرّب بعضهم منه، ليبعدهم عن الشعب، وشن حملات تخويف واسعة على جمهرتهم الأكبر وحرّض شبّيحته عليهم، بينما منع معظمهم عن العمل، وشرّد وهجّر مئاتٍ منهم بخروجهم من سورية، توقفت “الطفرة” الدرامية داخلها وخارجها. ومما يؤسف له أن توقفها حدث في ظرفٍ، يتيح لها حرية القول والفعل، في المجالين السياسي والمجتمعي، وممارسة دور مبدع وخلاق، له تأثير فريد على الصراع بين الثورة والنظام.
بذلك، غابت الدراما السورية أو، بالأحرى، غيّبت عن وظيفتها الإبداعية، وتشتت مبدعوها، وأحبطتهم البطالة، وحالت بينهم وبين تأسيس اتحاد جامع ينضوون فيه، فيعينهم على استئناف ما انقطع من أعمالهم وإبداعاتهم التي سيجعلها انحيازهم إلى الثورة، ونضج تجاربهم بفضلها، مفعمة بروح الحرية والمسؤولية الوطنية والإنسانية، وعلى درجة رفيعة من صدق القول ورقي التعبير.
متى يستأنف مبدعونا مسيرتهم المميزة؟
المصدر: العربي الجديد