مقالات

القدس العربي – ما يطلبه المقصوفون من الدول «الصديقة» القاصفة

يتنافس على احتلال سماء وبحر وبرّ سوريا تحالفان كبيران، الأول بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ويضم دولاً كبرى مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وأخرى إقليمية كتركيا، والثاني بقيادة روسيا، ويضمّ أيضاً دولاً إقليمية كبرى كإيران، وبين هذين التحالفين هناك دول «بين ـ بين»، فهي تتعاون وتنسّق مع الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في الوقت نفسه، كالعراق وإسرائيل، وهناك دول حائرة تنتمي إلى التحالف الأول وتبدي «عواطف حارّة» نحو التحالف الثاني وتدخل في هذا الباب دول مثل مصر والإمارات والأردن.

وباستثناء الحادث اليتيم لإسقاط تركيا قاذفة روسية (وما تلا ذلك من غضب «ساطع» تمثّل في هجمات دموية على المناطق التي كانت تركيا تخطط لتكون ملاذات آمنة للسوريين، وعقوبات اقتصادية على أنقرة، واتهامات لها بـ»الخيانة» و»الطعن في الظهر» وفوقها تهم جنائية وسياسية شخصية لرئيسها رجب طيب إردوغان وعائلته بتجارة النفط مع تنظيم «الدولة الإسلامية»)، فإن زحمة الطائرات والصواريخ العابرة والبراميل المتفجرة والقذائف تسير في تناغم وتناسق وانتظام مدهش نحو هدفها المباشر على الأرض الذي تتكوّن عناصره بشكل رئيسي من شعب منكوب يدعى الشعب السوري.

ورغم أن قصف المدن والقرى والجسور والمستشفيات والمدنيين السوريين هو القاسم المشترك الأعظم للغارات، فإن مزيداً من التمعن في الأخبار القادمة من هناك يكشف وجود أهداف أخرى تتركز، من الجانب الروسي، على تهشيم أي معارضة للنظام السوري (وانضاف إليها، بعنف كبير، البلدات والقرى ذات الصلة بتركيا)، ومن الجانب الإسرائيلي، بالتنسيق مع روسيا، على أهداف متنوّعة بينها قوات للحرس الثوري الإيراني و»حزب الله» اللبناني (آخرها كان في منطقة «القطيفة» جنوب سوريا)، وأخيراً قرأنا عن استهداف غارة جوية مجهولة لمعسكر للجيش السوري في مدينة دير الزور، «أثارت قلق» روسيا، فيما قالت واشنطن أن موسكو هي القاصف، وهو أمر يثير العجب لأن بروتوكولات الاشتباك و»التنسيق الجوّي» بين كل هذه الأطراف يعني أن كل طرف منها يعرف ما يقصفه الطرف الآخر بالضبط!

الأغلب أن المدنيين السوريين المغلوبين على أمرهم يعرفون أنهم يقصفون بكل أنواع الأسلحة، وأن التحالفين يملكان حدوداً رجراجة لم يعد ممكناً كثيراً التفريق بينها، ولكنهم محتاجون فالأمريكيون والأوروبيون والروس والنظام السوري (وهم خصوم مفترضون) يدعمون «وحدات الحماية الشعبية» الكرديّة المرتبطة بحزب تركيّ يعتبره «الناتو» نفسه إرهابياً، وتقوم هذه الوحدات على «تحرير» مناطق من تنظيم «الدولة الإسلامية» ولكنها بعد ذلك تنتهك حقوق مواطنيها السوريين العرب وتهجرهم وتنكّل بهم ثم تطالب بمقاعد لها في مؤتمرات «المعارضة» السورية، لأن لها وجودا على الأرض.

يعرف من يعيش في الغرب أن قنواته التلفزيونية تعرض الكثير من البرامج التي تساعد سكانها في حلّ مشكلاتهم مع حيواناتهم الأليفة كالقطط والكلاب، فتعالج هذه الحيوانات وأصحابها من أعراض الاكتئاب والقلق النفسي والإحباط والعقد النفسية. لا تتعرّض هذه الحيوانات المسكينة للقصف والتجويع والحصار والتعذيب والاعتقال ومع ذلك تجد من يتفهم أعراضها ويساعد على حلّها، ولكن حين يتعلّق الأمر ببشر من منطقتنا العربية المنكوبة لا يعود لما يشعر به الإنسان هناك أي معنى لأنه ليس إلا كتلة سوداء مطلوب قصفها.
تحصل عملية إرهابية كبيرة في نيويورك فتهتزّ أركان الأرض وتشن الحروب وتمحى بلدان وشعوب من على الخارطة، كما لو كان الانتقام هو المنعكس الشرطي الأعمى الذي لا تحدّه مؤسسات الحضارة المزعومة للغرب، ويكون الحصاد خراباً يجرّ خراباً أكبر بكثير، ويتحول تنظيم «القاعدة» إلى خيال متواضع لتنظيم «الدولة الإسلامية»، ولكنّ رد فعل كلب بافلوف الجديد ما زال نفسه: الانتقام.

لعلّ أقصى ما يطلبه المقصوفون الآن من كل هذه الدول «الصديقة» التي هرعت لإنقاذ العالم من «الإرهاب» هو أن يتركوهم ليغادروا جميعهم إلى بلدان اللجوء «الصديقة» وبعدها، فليقصفوا، ما شاؤوا، هذا البلد المنكوب برئيس قتل من شعبه أكثر بكثير مما فعل «الإرهابيون».

المصدر : القدس العربي 

زر الذهاب إلى الأعلى