يوم 27 سبتمبر/أيلول عام 1955، فاجأ جمال عبد الناصر العالم، عندما أعلن أن مصر وقعت صفقة أسلحة مع تشيكوسلوفاكيا (السابقة)، ما أثار ضجة كبرى إقليمياً ودولياً، فقد كانت تلك الصفقة الباب السحري الذي دخل منه الروس إلى الشرق الأوسط أول مرة، بينما كان العالم مقبلاً على عصر الحرب الباردة.
وبالعودة إلى الظروف التى تمت فيها تلك الصفقة، وفتحت الأبواب أمام الروس للدخول إلى الشرق الأوسط، نجد أنه مع بداية عام 1955، كان عبد الناصر قد حسم الصراعات على السلطة في مصر لصالحه تماماً، سواء داخل الجيش، أو في صراعه مع جماعة الإخوان المسلمين. هذا على المستوى الداخلي، أما على المستوى الخارجي، فقد تعرّضت مصر لهزة عنيفة، عندما قام العدو الإسرائيلى مساء يوم 28 فبراير/شباط 1955 بإغارة مفاجئة على موقع عسكري مصري في قطاع غزة، أطلق عليها عملية السهم الأسود، وراح ضحيتها 39 جندياً مصرياً.
تواكبت تلك الأحداث مع عقد مؤتمر باندونج في إندونيسيا في 18 إبريل/نيسان من العام نفسه، بدعوة من الرئيس أحمد سوكارنو، ومشاركة زعماء من الدول الأفروآسيوية الواعدة. من أبرزهم شواين لاي وتيتو ونهرو وعبد الناصر، ليتم تأسيس حركة عدم الانحياز، لتجنب الصراع المحتمل بين القطبين الجديدين، الغربي بقيادة أميركا والشرقي بقيادة روسيا، وجدها عبد الناصر فرصة لطرق أبواب مصادر جديدة للتسليح، فطلب من الزعيم الصيني، شواين لاي، في لقائهما مساعدته في ذلك، فتلقى وعداً شفوياً بالتوسط لدى الروس.
جاء الرد بعد ذلك بشهر، عندما أبلغ السفير الروسي في القاهرة عبد الناصر الموافقة على مده بالسلاح، على أن تتم الصفقة مع التشيك، لرغبة الروس فى عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع الغرب في ذلك الوقت. وبالفعل، تم توقيع الصفقة مع التشيك، يوم أعلن عنها عبد الناصر.
وقابل الغرب الإعلان عن صفقة السلاح بالغضب، وخرجت تصريحات تحذّر الروس من الدخول إلى الشرق الأوسط، وأبدت أميركا استعدادها للتجاوز عن الصفقة في مقابل رضوخ مصر لشروطها، لكن الأمور تطورت بشكل متسارع، وأمم عبد الناصر قناة السويس، ووقع العدوان الثلاثي في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1956، ولعب الاتحاد السوفييتي دوراً، في ذلك الوقت، في مساندة الموقف المصري، ثم في توقيع اتفاق تمويل السد العالي وإقامته، وأصبح الوجود الروسي في مصر أمراً واقعاً، لم يقتصر على المجال العسكري، ولكنه تطور في اتجاهات متعددة، أهمها مجالات التصنيع والمشروعات الكبرى.
لم يقتصر الأمر على مصر، فمع سريان موجة الانقلابات العسكرية الثورية في المنطقة، العراق 1958، اليمن 1962، بالإضافة إلى الوحدة المصرية السورية (1958-1961)، ولجوء تلك النظم إلى الروس، لبناء الجيوش القومية، ثم جاء التطور الإقليمي الأكثر دراماتيكية، في حرب يونيو/حزيران 1967، والهزيمة العربية، ثم لحاق ليبيا بركب الدول القومية في انقلاب معمر القذافي 1968، ودخولها تحت عباءة التسليح الروسي.
تلك كانت سنوات الصعود والتمدد الروسي في منطقة الشرق الأوسط، بدأت في 1955، ووصلت إلى ذروتها في 68 و69. ومع بداية السبعينيات، بدأ المد يتوقف، ولم يتجاوز الدول الخمس في المشرق العربي، مصر والعراق وسورية واليمن وليبيا، إضافة إلى الجزائر في المغرب العربي. ومع تعقد الصراع العربي الإسرائيلي، وإدراك العرب أن الروس غير قادرين على الحل أو غير راغبين، وأنهم لن يتجاوزوا حدوداً معينة في مجالات التسليح، بدأ الاتجاه التدريجي نحو الغرب، والذي بدأه عبد الناصر نفسه، عندما قبل مبادرة روچرز الأميركية في أغسطس/آب 1970، لوضع حد لحرب الاستنزاف. ثم جاء أنور السادات، ليقوم بما أطلق عليه ثورة التصحيح في مايو/أيار 1971، وتخلص من كل رجال نظام عبد الناصر، ثم تخلص، بشكل مفاجئ، من كل الخبراء الروس في القوات المسلحة في 1972، في إشارة لها مغزاها لمستقبل العلاقات مع الروس، وتسارعت التطورات في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، ثم الدخول في عملية السلام برعاية أميركية، ثم جاءت معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية عام 1979، وما أعقبها من دخول مصر تحت مظلة المعونة العسكرية الأميركية، ليتغير تسليح الجيش وتدريبه جوهرياً، بالإضافة إلى التحولات السياسية والاقتصادية التي انتهجها السادات نحو الانفتاح الاقتصادي. وهكذا بدأ غلق ذلك الباب السحري الذي دخل منه الروس في الخمسينيات والستينيات إلى مصر، ومنها إلى الشرق الأوسط كله.
شهدت حقبة التسعينيات مشهد الخروج الكبير للروس من الشرق الأوسط، مع انهيار الاتحاد السوفييتى السابق، وبداية تآكل الألة العسكرية الروسية في الدول التي تعتمد عليها، والتي بدأت في العراق مع مغامرات صدام حسين العسكرية في حربه الطويلة مع إيران، ثم غزو الكويت، وتعرضه لحرب الخليج الثانية، وما أعقبها من عقوبات، انتهاء بالغزو الأميركي 2003، والذي قضى على الجيش العراقي وتسليحه الروسي تماماً. ثم توالت الأحداث، لتنهي ما بقي من جيوش تعتمد على السلاح الروسي، فى ليبيا واليمن وسورية، ولينتهي النفوذ الروسي في المنطقة، باعتبار الروس المصدر الرئيسي لتسليح المؤسسات العسكرية التي هي عَصّب النظم السياسية اليى كانت قائمة، وتدريبها.
ولكن، في ظل كل تلك الظروف، تمكن الروس من الحفاظ على موطئ قدم في سورية. في ظل نظام الأسد الأب والابن، وهو ما يفسر تمسك الروس بدعم نظام الأسد حتى النهاية، لأن سقوطه يعني القضاء على أي أمل فى استعادة الوجود الروسي في المنطقة.
استيقظ لدى الروس، أخيراً، حلم العودة إلى الشرق الأوسط، وراحوا يطرقون الأبواب السحرية التي سبق أن دخلوا منها في خمسينيات القرن الماضي، ولأن العالم قد تغير كثيراً، كان على الروس أن يأتوا، هذه المرة، بقواتهم المقاتلة، لا مجرد خبراء ومستشارين ومدربين، بل سلاحاً وعتاداً ومقاتلين، وآخر ما أنتجته ترسانتهم العسكرية من أسلحة الجو والبحر والبر، وقد تم ذلك كله، في البداية، تحت مظلة “الحرب على الإرهاب”، ومرتكزاً على موطئ القدم الروسي فى سورية.
وانغمس الروس، على الفور، فى خضم المعارك الدائرة على الساحة السورية. ولكن، سرعان ما واجه الروس ردود الفعل غير المتوقعة، بدءاً من عملية تفجير طائرة الركاب المدنية الروسية فوق سيناء ومقتل 244 راكباً مدنياً، إلى إسقاط المقاتلات التركية قاذفة حديثة من طراز سوخوي 24. وفي اليوم نفسه، سقطت هليكوبتر مقاتلة روسية في الأراضي السورية، ودمرتها عناصر المعارضة المسلحة. بعد مرور أكثر من شهرين على الدخول العسكري الروسي المكثف إلى المنطقة، عبر بوابة النظام السوري، لم تتحقق أي نتائج ملموسة على أرض الواقع، فلا نظام الأسد تمكّن من استعادة أي من المناطق التي فقدها، ولا موازين القوى تغيرت، ولا توجد نتائج ملموسة للضربات الصاروخية والجوية الروسية المكثفة، اللهم إلا النيران الصديقة التي تسقط على بعض مواقع نظام الأسد.
هل يدرك الروس وقيصرهم الجديد أن الشرق الأوسط الذي يحلمون بالعودة إليه ليس هو شرق أوسط منتصف خمسينيات القرن الماضي؟ وأن بشار الأسد المحاصر في دمشق وأجزاء من الساحل السوري ليس هو عبد الناصر، بكل ما كان يحيط به من زخم محلي وإقليمي ودولي، والأهم، هل سيتحمل الروس التكلفة الباهظة لحلمٍ يبدو بكل المقاييس حلماً مستحيلاً؟
المصدر : العربي الجديد