مقالات

محمد منصور – هل مرَّ الربيع العربي على المجلات الثقافية العربية؟

لو قُيِّض لباحث أو طالب جامعي بعد خمسين عاماً، أن يعود إلى سجل المجلات الثقافية العربية ليجري بحثاً عن الثورات أو الحركات الاحتجاجية التي انطلقت في عدد من البلدان العربية، والتي أطلق عليها العالم اسم “الربيع العربي” وكيف انعكست النقاشات حول هذا الحدث الذي فجر صراعات ومحاور، وغيّر بُنى تفكير وانتماءات، وأوجد مفاهيم جديدة للهوية، وأظهر على السطح مشكلات كانت تتفاعل في العمق على شكل تناقضات مسكوت عنها.. فسيفاجأ هذا الباحث أو الجامعي، أن الربيع العربي -بخيره وشره- لم يمر على صفحات الكثير من المجلات الثقافية العربية.. فهو ببساطة لا وجود له على الإطلاق.. ليس في دائرة الأبحاث والمقالات والنقاشات الاجتماعية التحليلية وحسب، بل حتى في سجل النصوص الأدبية!

لقد كانت المجلات الثقافية فيما مضى تعبيراً حقيقياً عن مشكلات عصرها، وعن أحداث عاشتها، ووقائع سطرتها، فمجلة “الهلال” التي أصدرها اللبناني جرجي زيدان في القاهرة، في الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر 1892 والتي عرّفها بأنها: “مجلة علمية تاريخية صحية أدبية” متبرّكاً – كما قال في افتتاحية عددها الأول بـ”الهلال العثماني الرفيع الشأن شعار دولتنا العلية أيدها الله” قدمت صورة عامة عن مجتمع يتوق إلى المعرفة في مجالاتها المختلفة وبمفهومها الثقافي الشامل، لكنها مع ذلك غدت صورة لكل متغيرات الأحداث الكبرى في عصرها، من حروب وثورات، وأحداث طبعت سجل أيامها حتى عندما انضوت تحت جناح الأنظمة التي تعاقبت على حكم مصر وصارت قريبة منها، مروّجة لسياساتها.. كما يمكن أن نلحظ أخيرا وليس آخراً.. كيف تغير خطابها سريعاً ما بين عهد الرئيس المعتقل محمد مرسي، ثم عهد السيسي..

أما مجلة “الرسالة” التي أصدرها أحمد حسن الزيّات بين ثلاثينيات وخمسينيات القرن العشرين، فقد حملت رسالة الفكر العربي، وأبرزت نمطاً من الأدب الناهض رغم محافظته على قيم وثوابت دينية، لكن هذا لم يمنعها أن تكون صدى لأحداث الحرب العالمية الثانية، وأن تحفظ سجلاتها ما كتبه كبار الأدباء عن رؤيتهم لعالم كان يتشكل من جديد في أتون صراع أحرق القوى الكبرى في العالم وفتت أوروبا إلى دويلات..

ومن بيروت جاءت مجلة “الآداب” اللبنانية التي صدر العدد الأول منها في خريف عام 1953 كمجلة واكبت المد القومي العربي الذي طبع خمسينيات وستينيات القرن العشرين، فكانت -وخصوصاً في الربع قرن الأول من عمرها- سجلاً للنزعة القومية في الأدب.. حيث مرت أحداث كبرى أرَّخ لها الأدباء، منها العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وانتهاء الحكم الملكي في العراق عام 1958 وثورة الجزائر ثم استقلالها عام 1962 بعد 130 عاماً من الاحتلال الفرنسي.. وصولاً إلى هزيمة المد القومي نفسه بهزيمة يونيو/حزيران عام 1967.. وهي هزيمة كابرت عليها المجلة طويلاً، ولا ننسى أن هذه النكسة كان لها حضورها في مجلات ثقافية أخرى، كمجلة “العربي” الكويتية التي صودرت في غير بلد عربي، حين نشرت قصيدة الشاعر نزار قباني المزلزلة “هوامش على دفتر النكسة”..

خاضت مجلة “الآداب” صراعاً عنيفاً مع مجلة ثقافية أخرى صدرت في تلك الفترة هي “شعر” التي رأس تحريرها الشاعر اللبناني يوسف الخال، وصدر العدد الأول مطلع العام 1957 لتتبني قصيدة النثر كإحدى أبزر تجليات الحداثة في الشعر العربي في تلك الفترة ولتستقطب العديد من الشعراء الذين غدوا أسماء بارزة في سماء الأدب فيما بعد.. فأثارت نقاشاً حادا في مواجهتها للشعر الكلاسيكي، وسجالها حول شعر التفعلية، وتبنيها لقصيدة النثر التي أباحت الأوزان والقوافي واقتفت نمط الشعر الغربي، وسجالاً آخر بين مبدأ الالتزام أو (الأدب في خدمة المعركة) الذي رفعته مجلة “الآداب” والمبدأ الذاتي في الإبداع، الذي يحرر الأديب من أن يغدو الالتزام بالنسبة له، عبئاً على عمق الإحساس بنصه، وحرارة الصدق الفني في الكتابة.

لكن مجلة “شعر” التي بدت “ليبرالية” النزعة، حداثية الرؤية، وهي تتلقى سيلا من الهجوم الطويل والعنيف في حرب “الآداب” عليها، هذه الحرب التي وصلت حد التخوين، لم تكن بريئة في مصدرها، وخصوصا بعد ما تبين تمويلها من منظمة “حرية الثقافة” المرتبطة بوكالة المخابرات الأمريكية.. ولم يكن سراً أن يوسف الخال أطلق مجلته بعد أقل من عامين على عودته من الولايات المتحدة الأميركية حيث عمل لسبع سنوات، في الأمانة العامة للامم المتحدة في نيويورك، كعضو في هيئة تحرير الطبعة الإنكليزية لمجلة الأمم المتحدة.. وهو أمر يمكن أن يفسر البيئة التي أراد محاكاتها.

لكن عصر المجلات الثقافية الإشكالية، لم ينته تقليدياً مع توقف مجلة “شعر” عام 1970، ولا مع محاولات إحيائها الفاشلة لاحقاً، أو صدور “الآداب” المتعثر في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وقد فقدت خصومها والكثير من كتابها وألقها، ففي صيف عام 1988 أصدر الناشر السوري المعروف رياض نجيب الريس مجلة “الناقد” الثقافية الشهرية، التي استمرت بالصدور الشهري لسبعة أعوام فقط، واتسمت بروح ليبرالية متمردة، في زمن كان تدجين الصحافة الثقافية أو تنميطها وتأطيرها قد استشرى.. فخاضت المجلة عبر أقلام لأدباء ونقاد كبار، وصحافيين شباب مشاكسين، حروباً ثقافية ضد اليسار المسكون بروح الشللية الثقافية التي تصنعها الأيديولوجيا الشمولية لـ”لاتحاد السوفيتي الصديق” كما كان يسمى في أدبيات الكتاب الشيوعيين الشعاراتية، وواجهت اتحادات الكتاب الرسمية، حيث يتمترس القمع والاستزلام الرخيص للسلطة، وتنسل روح الأدب شاحبة منهكة في زمن كان عصياً على التغيير!

وقفت “الناقد” كذلك إلى جانب الشعراء الذين تمردوا على أنظمتهم، فخصصت عدداً للشاعر المصري محمد عفيفي مطر، حين اعتقله نظام مبارك عام 1991، حمل صورته ونادى بالحرية له، فيما تصدر العدد قصيدة جديدة للشاعر نزار قباني بعنوان: “هوامش على دفتر الهزيمة 1967- 1991” تابع فيه قصيدته الأولى المدوية عن هزائم العرب المحكومة بقمع الإنسان العربي وهزيمته من الداخل.. إلا أن “الناقد” انتهت إلى الصمت أخيراً بعدما ضاقت بها السوق العربية، فلم تعد توزع سوى في ستة بلدان عربية، حتى كتب ناشرها ورئيس تحريرها افتتاحية عددها الأخير: “هذا زمن السكوت وملازمة البيوت”!

إن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، إزاء التحول التاريخي الخطير الذي تمر به المنطقة العربية.. منذ أشعل التونسي محمد البوعزيزي النار في جسده المحبط في خريف عام 2010.. هل يجوز أن تغمض الكثير من المجلات الثقافية عينيها على ما جرى في تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن وغيرها من البلدان؟

وإذا كانت بعض المجلات الثقافية العربية التي شهدت بلدانها ثورات كمجلة “الهلال” المصرية، قد تلونت بين عهد وآخر.. آخذة معها تبدل الرؤية الرسمية تجاه ما جرى بين عهد وآخر.. وناطقة باسم من يمولها، فهل يجوز ألا ينعكس هذا الحراك أو الانفجار الذي عم بلدان أنهكتها الديكتاتورية والظلم والفساد، على صفحات مجلات، تشكو من غياب القارئ، فيما هي تغيب أيضاً عن هموم هذا القارئ؟ وهل يكفي أن نتحدث عن “آثار سورية في قبضة النار” كما جاء على غلاف مجلة “العربي” الكويتية في أحد أعداد 2014، مكتفين بإشارة عابرة لـ (الحرب السورية) دون تحديد أي من معالم الصراع، ثم سرد أرشيفي للمواقع السورية المدرجة ضمن لائحة التراث العالمي، ومعلومات قديمة عنها.. كي نبدو وكأننا نواكب الجانب الثقافي مما يجري؟

لقد ساد الصمت والتجاهل لما حدث في العالم العربي من هزات عنيفة في السنوات الخمس الماضية، حتى أن كثيرا من المجلات الثقافية، لم تجرؤ أن تترجم موقف الأنظمة والحكومات التي تدعمها أو تمول صدورها مما يجري.. لا سلباً ولا إيجاباً!

إن الاستغراق في موضوعات من قبيل (الحلي والأحجار الكريمة في التراث العربي) و(الحموات في الأغنية العربية) و(النجوم الأفلاك.. الرفيق والدليل) و(الخزف والزجاج.. جماليات الفن الإسلامي) و(فن تذهيب الكتب والمصاحف) وهذه كلها عناوين أغلفة وملفات لمجلات ثقافية، وليست مجرد موضوعات ترفيهية وتثقيفية في متن تلك المجلات تكمل وجبة القارئ المعاصرة.. لا بد أن يؤدي إلى تعميق مزيد من الانسلاخ عن الواقع، والخروج من بوتقة العصر في مجلاتنا الثقافية، بينما تأتي مجلة كـ”ناشيونال جيوغرافيك” الأميركية الثقافية الشهيرة، لتكتب عن دمشق الحضارة والتاريخ في أتون الصراع السياسي الذي تعيشه سورية في ثورتها، من دون أن تتخلى “ناشيونال جيوغرافيك” عن عمق مادتها الثقافية وحرارة تماسها مع اللحظة الراهنة.. ولا عن رصد آراء المؤيدين والمعارضين بوضوح، ثم ترصد في تحقيقات استقصائية تسبر منطقة بلاد الشام، التي تطلق عليها (الأرض المقدسة) أرض البركات والنزاعات والبلاء، في رحلات صحفية تشرح عمق التاريخ وصراع الجغرافيا في بادية الأردن وفلسطين.. لتمشي مع لاجئي سورية الذين تطلق عليهم (المأساة العابرة للحدود)!

لا أهدف من خلال هذا الحديث عن المجلات الثقافية، دعوتها للانخراط في السياسة وتجاذباتها.. أو الصراعات المذهبية وتعقيداتها.. فثمة خيارات لا حصر لها لمقاربة ما يجري في عالمنا العربي اليوم، من منظور ثقافي أو اجتماعي أو حضاري تنويري، بعيداً عن الآنية والمباشرة السياسية.. لكن من حق القارئ أن يرى في مجلاته الثقافية اليوم، صورة عصره، لا صور الماضي فقط، حيث يلذ للكثيرين النوم بعمق في كنف ماض،ٍ يشيع الطمأنينة الهاربة من قلق أسئلة العصر وتحدياته الراهنة.

المصدر : هافنغتون بوست عربي 

زر الذهاب إلى الأعلى