الأزمة الرئاسية اللبنانية تترنح بين مرشحَين حتى الآن. المرشح الأول: سليمان فرنجية، صديق بشار الأسد، وجاء ترشيحه على يد سعد الحريري، ممثل السنية السياسية والحليف المقرب من المملكة العربية السعودية، والمرشح الثاني: ميشال عون، حليف «حزب الله»، وقد رشحه سمير جعجع، القيادي في تحالف «14 آذار» والذي رفض دخول الحكومة اللبنانية لأنها ستكون عاجزة عن اتخاذ موقف واضح ضد التدخل العسكري لحزب الله في سوريا.
مشهد سوريالي لوطن ناقص وممزق وعاجز عن لمّ الزبالة من شوارع بيروت. نظام يحاول إنقاذ نفسه واستعادة قدرته على الحكم، من خلال مناورات أعادت الطبقة السياسية اللبنانية إلى حجمها الطبيعي، أي إلى مجرد متصرّف صغير يحاول التحايل على تفككه عبر ترميم بنية لم تعد صالحة للترميم.
غير أن هذين الترشيحين لن يحتكما إلى اللعبة الديمقراطية التقليدية في المجلس النيابي، فالجنرال عون مصرّ على تعطيل الجلسات إلى أن يفرض نفسه مرشحا وحيدا يفوز بتزكية اجماعية. نحن أمام مناورة تسمح لنا بقراءة غياب الديمقراطية واندثارها في مجمع الطوائف اللبنانية البائس.
عادت لعبة التوازنات الطائفية لتحتلّ المكان، خفت الكلام الكبير عن الاستقلال والممانعة والوطن – الرسالة، وسادت اللغة التي كانت مضمرة دائماً، وهي لغة اقتسام السلطة ومنافعها بين الطوائف. حتى مقاومة حزب الله اتخذت شكلها الطائفي الصارخ، وخصوصا بعد تدخل جنود الحزب في سوريا دفاعاً عن الاستبداد ونظام المافيا.
فجأة انهار كل الكلام الكبير عن الاستقلال الثاني بحسب انتفاضة 14 آذار 2005، وانهار معه كلام المقاومة والممانعة. فالتحالفات العابرة للطوائف التي صنعتها المؤسسات الطائفية عشية الانسحاب السوري، كشفت عن كونها مجرد أقنعة. الليبرالية الجديدة بصيغتها الحريرية لبست الثوب الطائفي، مثلما لبست المقاومة والممانعة ثوبها الطائفي أيضاً، ما دفع إلى تحالف عوني- قواتي لا مبرر له سوى الاندراج الكامل في الخطاب الطائفي إياه.
لم يعد الخطاب القديم مهماً، الأساسي هو اعادة تقسيم المقسّم طائفيا واقليميا. المرشحان الرئاسيان يحفظان الحصة الايرانية، ورئيس الحكومة العتيد يحفظ الحصة السعودية، والأساسي هو اقتسام السلطة بعدما ثبت عجز أي طرف عن الاستيلاء عليها بمفرده. لكن ما فات ويفوت زعماء الطوائف أن القرار ليس في ايديهم، بل هو ملك لمشغليهم ومموليهم. لذا يبدو التنافس الرئاسي مجرد تعبئة للفراغ بالفراغ، في انتظار قرار الأسياد.
معضلة لبنان الكبرى ولعنته التأسيسية هي أن لبنان، بنظامه الطائفي، تأسس في المتصرفية عام 1860، كنتبجة لحرب أهلية طائفية دموية، ولم يكن اعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، في ظلّ الانتداب الفرنسي، سوى توسيع للمتصرفية وتأكيد على ثابتها الطائفي.
الطوائف التي حكمت لبنان حولت النظام السياسي من نظام طائفي إلى نظام حرب أهلية دائمة، هذا هو حصاد لبنان بعد الاستقلال، وطن يعيش الحرب او حافتها، ويرتضي أن يكون مجرد ساحة للصراعات الإقليمية والدولية.
وكان على القوى الاقليمية والدولية، ومع كل انفجار داخلي، إعادة ترميم الدولة اللبنانية كي تكون مجرد غطاء مؤقت للتناقضات الطائفية التي كانت دائما أقنعة للصراعات الاقليمية.
غير أن الترميم لم يعد ممكناً اليوم، وحتى في حال حصوله فإنه لن يبني دولة، بل سيبقي لبنان ملعبا للتقاسم والنهب في صيغة يمكن ان نطلق عليها اسم توازن اللاتوازن.
اللعبة السياسية كما تدور الآن وصلت إلى انسداد مطلق، وصارت الصيغة اللبنانية عدوة للبنان. الصيغة التي نظّر لها ميشال شيحا انتهت وصارت نقيضا لوجود الدولة اللبنانية. هذه الصيغة التي لم تنتج سوى حروب أهلية متناسلة هي التي تدفع اللبنانيين إلى الهجرة، جاعلة من الحياة الكريمة مطلبا مستحيلا وعبئا.
وبصرف النظر عن أي موقف ثقافي – سياسي رافض للطائفية ونظامها السياسي، فإن المسألة باتت اليوم مسألة بقاء ووجود. نظام الحرب الأهلية، الذي تتمفصل فيه البنية الطائفية بالبنية المافيوية، ويعمل بقوة الدفع الخارجي الذي يستغل تفككه ويسعّره حين يحتاج إلى ذلك، هذا النظام السياسي اللبناني انتهى، ولم يعد قائما إلا كأداة نهب، وقد اثبتت أزمة النفايات أنها الوجه الذي كشف أعماق الأزمة السياسية. فالطوائف في ظل عدم قدرتها على انتاج نصاب داخلي، باتت مكشوفة وعارية، فهي ليست سوى مؤسسات تحطيم للدولة واستتباع للمجتمع.
لم تعد الدعوة إلى العلمانية مجرد دعوة ثقافية تسعى إلى احترام الأفراد وحقوقهم وإلى عقد اجتماعي جديد قائم على العدالة الإجتماعية، بل صارت ضرورة للبقاء. اللبنانيون مدعوون إلى الخيار بين نظام فاسد يدمّر حاضرهم ومستقبلهم ويهجرهم من بلادهم، وبين نظام جديد يحفظ لهم حقهم في الوجود كبشر ومواطنين.
عاصفة الترشيحات الرئاسية تبدو مجرد لعبة سياسية فارغة من المضمون، وهي ليست سوى جزء من ملهاة الطوائف ومأساة الوطن. فهي لا تحمل معها أي أمل في الخروج من نظام الحرب الأهلية، فهذا النظام أقوى من الدولة ومن المواطنين، وهو قادر على استغلال مركّب الخوف عند جميع الطوائف، كي يعيد تأسيس نفسه كأنبوب لتصريف الصراعات الاقليمية او جزء منها ومن أوساخها.
ولكن كيف نجرؤ اليوم على الكلام عن العلمانية وسط منطقة تحترق بنيران الحروب الطائفية والدينية، وهذا الدمار السياسي والأخلاقي الذي يعيشه المشرق العربي، واستفحال الأصولية العنصرية اليهودية – الاسرائيلية وتوحشها؟
نجرؤ لأننا لم نعد نمتلك رفاهية الصمت، فلقد وصل الخراب إلى قعره، فمقاومة هذا الخراب يجب أن تبدأ من مكان ما. صحيح أن المسار الديمقراطي في لبنان معقد وصعب، لكن لا خيار لنا. اما أن نبني وطناً أو نندثر.
لقد تلمسنا بدايات الطريق من خلال الحراك الشبابي – الشعبي في معركة النفايات وما تبعها، لكن الخطأ يكمن في استخلاص دروس الاحباط من تجربة لا تزال تبحث عن أطرها وآفاقها. فالتحرك بما كشفه من تناقضات والتباسات وبالقمع الذي واجهه، يجب أن يشكل بداية بحث جدي عن أطر اجتماعية وسياسية تبني البديل الديمقراطي بنفس طويل.
المصدر : القدس العربي