مقالات

كرم يوسف – الطائرات التي لا تقصف في سوريا

على مر السنوات الخمس من عمر الثورة السورية، كان هناك مجال دائماً لحدث جديد، حدث ربما لم تأت معه نهاية لهذه الأزمة، إلا أنه كان يغير من مساراتها وأحيانا يعصف بالمشهد الدولي بشكل عام، وآخره كان أزمة الجوع المميت في مضايا.

لم تخل هذه الأحداث أيضاً من محاولات حل سياسي وعسكري للأزمة، إلا أنها كانت تصطدم في كل مرحلة بعوائق تمنع تكللها بالنجاح، وأبرزها المساندة الروسية والإيرانية لنظام الأسد، والتي زجت بكل ما عندهما من أوراق سياسية وعسكرية منعاً لسقوط حليفهما، في وقت يكون فيه أي حل مرتبط برحيل شخص الرئيس السوري بشار الأسد ونظامه، مع تقادم عمر الأزمة السورية، التي بموجبها أعطت قوات التحالف الدولي فيها الحق لنفسها بقصف تنظيم «داعش» في سوريا. تحركت الطائرات السورية من جديد لتقصف «داعش» في الرقة وأماكن أخرى، وفي ظل الأرض والسماء المستباحة وبالتنسيق مع النظام السوري كانت الطائرات الروسية تحوم في السماء السورية وتقصف.

لا تقصف الطائرات التي تحوم تحت سماء سوريا الهدف نفسه، رغم اشتراكها في الشعار نفسه، وهو قصف تنظيم «داعش» والجماعات الإرهابية، ولكن في ما يتعلق بالجماعات الإرهابية فإن هناك لكل جهة تملك هذه الطائرات التي تقصف قوائم خاصة بها، بالنسبة للنظام السوري فإن كل من لا يحارب تحت رايته فهو إرهابي، أما روسيا فإن لها تصريحات إعلامية بين الحين والآخر تفيد بأنه يوجد على الأرض عدا قوات النظام من هم ليسوا إرهابيين ولاسيما الجيش الحر، على الرغم من أن طائراتها حتى الآن لا تميز بين الأخضر واليابس، الذي لا يقع تحت سلطة النظام، الطرف المتبقي في هذه المعادلة، الذي عجز أو لم يحقق إلى الآن النتائج المرجوة هو قوات التحالف الدولي بإدارة أمريكا.

مدينة الرقة السورية التي تعد عاصمة لتنظيم «داعش»، وكانت ضمن الأهداف الأساسية لغارات قوات التحالف الدولي، وكذلك ضمن الأهداف الرئيسة لروسيا وقوات النظام السوري، تبلغ مساحتها أقل من ألفي كيلومتر مربع، ورغم ذلك فإن عدد الغارات الروسية في سوريا بلغ إلى الآن قرابة أربعة آلاف غارة، أما قوات التحالف فإنه من ضمن سبعة آلاف غارة على سوريا والعراق فإن قرابة ثلاثة آلاف غارة استهدفت مواقع للتنظيم في سوريا، أما القوات السورية فإنها تقصف منذ خمس سنين كل ما يخرج عن سيطرتها، من دون أن تتمكن كل هذه الغارات من القضاء على التنظيم في هذه المدينة.

لماذا لا نرى نتائج حقيقية بعد كل هذا الكم من الغارات؟ وهذا سؤال مشروع يمكن لكل متابع للشأن السوري أن يسأله، ولماذا تكاد كل المناطق التي تقع خارج سيطرة «داعش» أن تباد عن بكرة أبيها، بينما معاقل التنظيم، خاصة في الرقة لازالت قوية ويتم تصدير السلاح والجنود منها إلى الجبهات، إلى جانب هذا فإنّ التنظيم يزداد انتشاراً في مناطق ولا يخسر إلا القليل؟ هل نرغم على تصديق الرواية الأمريكية في تحقيق إصابات كبيرة في صفوف التنظيم في سوريا ومعاقله ومراكزه وإضعافه، مقابل رؤية التنظيم قوياً ولا يزال ينتقل من جبهة إلى جبهة؟ لو نفينا الرواية الروسية والسورية في قصف التنظيم في أماكن وجوده، لاسيما الرقة فأين هي نتائج قصف قوات التحالف على الأرض، رغم أكثر من ثلاثة آلاف غارة قام التنظيم بتنفيذها في سوريا، التي كان نصفها كافياً لتبيد بلداً لا مدينة مثل الرقة.

تابع الكثيرون باهتمام كبير جلسة البرلمان البريطاني للمصادقة على قصف التنظيم في سوريا، حيث انطلقت الطائرات البريطانية لسرعة التنفيذ وبعد ساعات قليلة من حسم التصويت لصالح تنفيذ الضربات من قاعدة أكروتيري في قبرص، تلمس الكثيرون في سرعة تنفيذ بريطانيا للقصف واستمرارها على هذا الوتيرة سوف يحسم المعادلة، بعد فترة غير طويلة، ولكن كما سابقاتها من ضجة إعلامية أمريكية ودولية هدأ كل شيء، وكأنه لم يكن، وكل ما يتعلق بعمليات قوات التحالف الدولي في سوريا بات مربوطاً فقط بتصريحات إعلامية من قبل قيادة هذه القوات أو البنتاغون الذي يعلن عدد الغارات والأهداف التي قصفت. ثم كيف يمكن لقوة كبيرة كأمريكا أن تشكل تحالفا دوليا وتصرف هذه الأموال الطائلة على قصف لم يأت بنتائج بعد أكثر من عام على البدء فيه؟ حيث أن كل طلعة جوية والذخيرة والصواريخ المستخدمة فيه تكلف ملايين الدولارات، فما الذي تقصفه أمريكا وقوات التحالف الدولي معه؟

من جهة أخرى من غير المنطقي القول إنه لا يقصف شيء تحت سيطرة التنظيم في سوريا من قبل قوات التحالف الدولي، حيث أن هناك تصاريح للبنتاغون أو لقيادة التحالف باستهداف أماكن معينة أو قيادات للتنظيم، ويعترف التنظيم نفسه بها، ويتوعد بالرد عليها، حيث أنه ردّ على مشاركة فرنسا في التحالف الدولي بالقيام بسلسلة أعمال إرهابية في فرنسا، وحاول ذلك في أكثر من مكان في أوروبا، هذا يقودنا إلى أن أمريكا وقوات التحالف تتعامل مع التنظيم ليس بمنطق القضاء عليه، وهو المنطق نفسه الذي تعامل معه النظام السوري الذي استخدمه كشماعة، وهدد به كل من يريد اسقاطه هو.

حين تقرر أمريكا خفض حجم المساعدات القتالية للمعارضة السورية وتقرر قبل ذلك بسنتين تقديم مساعدات غير قتالية، وتقوم من جهتها مع حلفائها بقصف التنظيم منذ أكثر من سنة، فإن ذلك يقود إلى نتائج غير مفهومة، مثل التصريح الذي قاله الرئيس العراق جلال طالباني بعد اسقاط أمريكا نظام صدام حسين في أنها- أمريكا- تمنع بناء جيش عراقي. 

بغض النظر عن موازين الربح والخسارة في هذه الحرب بالنسبة لأمريكا وحلفائها، فالحرب لم تنته بعد وفي كل مرحلة ترجح كفة على حساب أخرى، ولكن مما لا شك فيه أن الموازين لن تعود كما كانت بالنسبة لنظام الأسد، أي أن روسيا وإيران وهما الحلف المضاد لأمريكا ستخرجان في كل الأحوال من هذه الحرب بنصف هزيمة في أفضل الأحوال، وقبول الأسد بمرحلة انتقالية هو جزء فيها أو بقاء جزء من نظامه في أي حكومة مستقبلية، طبعا هذا في حال كانت الكلمة في النهاية للحل السياسي لا للعسكري، الذي من المحتمل أن يأتي في أي لحظة ويحسم الأمور، بغض النظر عن هذا فما الذي يمكن أن تفيده عمليات القصف أمريكا ودول التحالف معها؟ لا شك أن أمريكا وبعد تجارب كثيرة لها، خاصة في أفغانستان والعراق أنها تستطيع التعامل مع أنظمة في غاية الهشاشة ومدها بالقوة أو الاستسلام لحالتها، لكن مع الحفاظ عليها إلى حين، بطبيعة الحال هذه الأنظمة لن تنتج إلا الأزمات الداخلية والحرب الأهلية في بلدانها وستكون غير قادرة على حسم المعركة في وجه أعدائها أو حتى الاستسلام، فالاثنان ما عادا الخيار الشخصي بالنسبة لهذه الأنظمة.

قيام الطائرات الأمريكية ومعها التحالف الدولي بقصف تنظيم «داعش» أو تغطية إعلامية زائدة عما يتم قصفه على أرض الواقع، مقابل ترك الساحة مفتوحة للنظام السوري وللتنيظم نفسه في أحيان أخرى ولفصائل مصنفة إرهابية لديهم، كجبهة النصرة بإحراز انتصارات والتمدد، هو تطبيق حقيقي لسياسة ترك الأمور لمرحلة الفوضى المنظمة، لكن بلا شك هذه الفوضى ستكون مختلفة عن العراقية والأفغانية، حيث لم تكن روسيا وإيران موجودتين فيها، ولم يصل الحد بالتطرف إلى الانتشار العالمي أو إغراق العالم باللاجئين، فضلاً عن تركيا التي لن تقبل بفوضى تصل إلى حد دعم عسكري أمريكي لفصائل كردية وأكراد يسعون لبناء إدارة جديدة تكون الثانية بعد أقليم كردستان على الحدود التركية.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى