مقالات

أكرم البني – حكايات حب دمشقية في زمن الخراب!

لم يكن عيد الحب يعني له كثيراً، كان يحبذه كتكريم لقديس ضحى بحياته فداءاً للعاشقين، وصار منذ 2005 ذكرى لاغتيال رفيق الحريري، ليغدو، بعد تفشي العنف والخراب، فرصة للسخرية من أولئك الذين يلهثون للاحتفاء بهذه المناسبة، ويتناسون ما يحل بأهلهم وبلدهم، متسائلاً عن حقيقة ما يحملونه من مشاعر الحب والإنسانية!

لم يعترض مباشرة على عزمنا، أختي وأنا، المشاركة هذا العام بسهرة العيد، لكن مع اقتراب الموعد، بات عصبياً وسريع الغضب، يعترض أي نقاش عائلي ليذكرنا بما يحصل من فتك وتنكيل… بمشاهد أطفال يستخرجون أشلاء من تحت الأنقاض، بأعداد المشردين والمعوزين التي تزداد. يحتكر جهاز التحكم كي ينتقي محطات تنقل فواجع الصراع السوري. يتحسر على ما يحصل ويلوم العالم الذي يلوذ بالصمت. يكرر امتعاضه من أصدقاء تبلدوا وفقدوا أحاسيسهم الإنسانية تجاه ما يحصل، ويراقبون مشاهد الموت والدمار كأنهم يحتسون قهوة الصباح!

لم نشعر بالارتياح حين غادرنا البيت. هموم والدي جعلتنا ندقق بمظاهر في المشهد اليومي ما كنا نعيرها الاهتمام الذي تستحقه. عشرات المشردين يستجدون في صقيع الشتاء بعض المال لتأمين قوت عائلاتهم. النساء والأطفال بالمئات يصطفون طوابير أمام مراكز الإغاثة لنيل سلة غذائية شهرية لا تكفيهم بضعة أيام. أصوات القذائف والقصف تتواتر من أطراف المدينة، بينما تلهث سيارات الإسعاف في سباق مع الموت.

تبادلت وأختي النظرات كأننا وصلنا إلى القرار ذاته. عدنا أدراجنا إلى البيت. كان أبي يتابع نشرة الأخبار واهتزاز ساقيه المتواصل يدل على مدى التوتر الذي يختزنه. سارعت إلى الهاتف وأخبرت صاحب الدعوة باعتذارنا عن الحضور، وأضفت بصوت هامس: لا، القرار لا يتعلق بموقف والدي، بل بنا، يبدو أن الفواجع لا تزال تسكننا، ولم نفقد بعد الإحساس بالعاطفة والحب!

والحكاية تالياً، أنها كانت تهرول مع زوجها نحو سيارة الأجرة لتفادي المطر المنهمر، لفتت انتباهها، ما أن حطت في المقعد الخلفي، نظرات السائق تتفحصها باهتمام، لم تعتد الهروب والمراوغة. سارعت لسؤاله عن السبب، خفف سرعة السيارة وهو يجيبها بأن ملامح وجهها تذكره بابنته. غص قليلاً وازدرد بعض ريقه قبل أن يكمل. لقد غادرتنا قبل أربعة أعوام، كانت تستعد لتقديم امتحانات الشهادة الثانوية حين التهمتها أنقاض بيتنا المدمر، لم نعثر عليها وإخوتها سوى أشلاء. مرت لحظات صمت، لم تعرف ماذا تقول، تأملت يديها المرتجفتين كمن يتفحص سلامتهما، ثم أعادت النظر إلى السائق وهي تكرر عبارات الأسف والتعزية، وبحركة عفوية قدمت له وردة حمراء أهداها لها زوجها للتو. هذه لك، أنت أحق الناس بها وبما تعنيه من مشاعر الحب والحياة! أطرقت ولم تجرؤ على رفع رأسها حتى الوصول، نزلت بسرعة من السيارة كأنها تريد الفرار، بينما كانت تسمع صوت زوجها وهو يقنع السائق بأخذ أجرته. وعندما تأكدت من أن الحوار هدأ، وأن زوجها بات قربها، اختلست التفاتة نحو السائق. كانت تتوقع رؤية عينيه الدامعتين من جديد، لكنها وجدت رأسه منكباً على المقود يحتضن بين كفيه وردتها الحمراء!

أما حكايتهما فعمرها بضعة شهور. تعارفا في العمل وتشاركا مع زملاء آخرين غرفة واحدة. صارت هفوات الود المتبادلة تفضحهما. كان ينوي مفاتحتها بمشاعره، ولكن بعد حوار عابر تمنت فيه نجاح مفاوضات جنيف، راجية وقف العنف والخراب. طار صوابه وارتفع صوته رافضاً ومديناً. لم يهدأ إلا بعد أن كال ما يحفظه من شتائم ضد كل أطراف المعارضة. شعرت بالصدمة، آثرت الصمت وامتصاص غضبها وألمها. أحست بالخسارة وبصعوبة التعايش الجميل في هذا الزمن الدموي البشع، وقررت الانتقال إلى غرفة أخرى.

لم يهدأ ليلاً وهو يطرح على نفسه الأسئلة، لماذا قال ما قاله؟ ولم احتد وغضب من رأيها وهو الذي أحب صراحتها؟ أليس هو من أوائل من عادوا إلى الحي المحاصر بعد مصالحة أجريت بين السلطة والمعارضة؟ أوليس أخوه من لا يزال مغيباً في السجون منذ ثلاث سنوات؟ هل ما حصل يتعلق بعصبية وحماقة عابرتين، أم بعادته الخبيثة في تفريغ انفعالاته على الأهل والأحبة، ما دام عاجزاً عن توجيهها ضد أغلال القهر التي تكبله؟ عزم أمره على الاعتذار، وبينما كانت تهم بدخول الغرفة، اعترض طريقها، ملتمساً، أمام الجميع، صفحها عمّا بدر منه وعلى العبارات التي تلفظ بها. فاجأها الأمر وأربكها، نظرت في عيون زملائها، ثم ملياً في عيونه المتعبة والصادقة… صافحته بحنان، واتجهت نحو مكتبها.

والحكاية أيضاً، أنها استجابت لدعوة زملائها للاحتفاء بعيد الحب، لم يقطع سهرتها سوى تكرار رنين هاتفها المحمول: إنها سلمى، قالت لزميلتها التي سارعت إلى سحب الهاتف من يدها وهي تنذرها: لا تجيبي، قد تسبب لك المشاكل، هل أنت مجنونة؟!

سلمى أعز صديقة عندها، رافقتها منذ الطفولة حتى تخرجهما في الجامعة. هي التحقت بعملها، وسلمى تزوجت من أحد أقاربها وانتقلت إلى بلدة بعيدة، كانتا تتهاتفان كل يوم تقريباً، لكن تواصلهما خفت بعد تفاقم الصراع الدموي وخروج البلدة عن سيطرة النظام. كانت بين الفينة والأخرى تختلس الفرص للسؤال عن أحوال سلمى وصحة طفلتيها وأخبار زوجها المفقود، شعرت بحزن وألم يعتصران روحها لأنها استسلمت للخوف ولم تجب عن اتصال صديقتها. ربما تحتاجها الآن بينما المعارك تحتدم هناك. أو ربما نجحت في الفرار من جحيم العنف إلى منطقة قريبة. لم يهدأ قلقها. اعتذرت عن إكمال السهرة بحجة التعب. غادرت المكان بسرعة، وما إن انفردت بنفسها حتى اتصلت بسلمى، مرة ومرتين وثلاثاً… كان الجواب يتكرر: الخط مقفل أو خارج نطاق التغطية… ضمت الهاتف إلى صدرها وأجهشت بالبكاء!

المصدر : الحياة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى