في “عالم من دون رجال عظماء” وفي زمن الاضطراب الاستراتيجي، يظهر جليا العجز والفشل في تفادي النزاعات أو إيجاد حلول لها، وفي عصر الصورة والثورة الرقمية نشهد “موت الإنسانية” في سوريا من دون أن يهز ذلك ما يسمّى “المجتمع الدولي” وكأن رخصة القتل المعطاة سارية المفعول بسبب حجم مصالح اللاعبين، وبسبب استمرار وجود وظائف عديدة لهذا النزاع المتشعب، وبالرغم من تفاقم تداعياته عبر التغريبة السورية التي لم تجد من يهتم بلاجئيها ومعذبيها أكثر من المستشارة الألمانية التي كانت عن حق ضمير أوروبا في لحظة انهيار منظومة القيم. وبالطبع لا يكفي هذا الدور لوحده أمام شراسة آلة القتل وتواطؤ جوقة العهر الدولي.
مع تركيز الاهتمام الإعلامي والسياسي على جانب من المأساة السورية، أعلنت منظمة وورلد برس فوتوز هذا الأسبوع عن جائزة الصورة الأفضل للعام 2015 وكانت للاجئ سوري وابنه على حدود أوروبا وأسلاكها الشائكة، وكانت مجلة تايم قد اختارت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل شخصية العام 2015 تقديرا لجهودها في أوروبا بخصوص ملف اللاجئين وملف ديون اليونان، ولأنها قدمت “قيادة أخلاقية ثابتة في عالم يفتقر إليها”، بحسب وصف نانسي غيبز. وارتبط ذلك أيضا بموقف سياسي متماسك لبرلين بالرغم من عدم القدرة على التأثير في ظل فقدان الوزن الأوروبي وصراع المحاور الإقليمية والاختراق الروسي الاستراتيجي، وذلك على خلفية التكتيك الأميركي في عدم المبارزة والسعي إلى الاحتواء في إدارة هذا الملف المعقّد والحساس.
إزاء التوحش والانفلات في الشرق غير البعيد، وإزاء نفي المعايير الإنسانية في سوريا والإمعان في الانتهاكات، أتت أزمة اللاجئين ووصول الإرهاب إلى أوروبا في 2015 كي يكشفا عن إخفاق للاتحاد الأوروبي في العديد من النواحي. وحدها المستشارة الألمانية استخلصت الدروس من تاريخ بلدها وتطابقت قراراتها مع شعارات الدفاع عن الحقوق الإنسانية، وفتحت الأبواب للاجئين غير مبالية بما أخذه البعض عليها من تحفيز وتشجيع للهجرة غير الشرعية ولطلبات اللجوء. لكن هذا الموقف الإنساني والأخلاقي لا يأتي من فراغ نظرا لصلته بموقع برلين القيادي في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو. لكن هذا الاهتمام بالجانب الإنساني وبالحرب ضد الإرهاب وبالموقف السياسي المبدئي، لا يكفي للإسهام في تخفيف الآثار أو لمعالجة المعضلة السورية. والفعالية لا يمكن أن تتأتى من دون موقف أوروبي مشترك مع فرنسوا هولاند وديفيد كاميرون.
ففي النزاع السوري، كما في النزاع الأوكراني، يؤدي غياب الموقف الأوروبي الوازن إلى تفاقم الأمور، وليست هناك من مصلحة أوروبية في صراع أميركي – روسي حاد أو تركيب ثنائية أميركية – روسية كما في الحالة السورية من دون أخذ المصالح الأوروبية بعين الاعتبار. ومن الواضح أن القيصر الجديد فلاديمير بوتين يمسك بالورقة السورية ليستعيد نفوذ موسكو في الأيام الخوالي، استكمالا للمبارزة حول أوكرانيا بانتظار رفع العقوبات عنه. وألمانيا معنية مباشرة بتفاعلات الوضع الأوكراني، ومما لا شك فيه أيضا، أن انتصار بوتين في سوريا سينعكس على سلوكه في أوروبا وربما يفتح “شهيته” على بعض جيرانه وبينهم من يتموضع في دائرة النفوذ الألماني.
من خلال أساليب القوة الناعمة والوزن الاقتصادي، تملك ألمانيا الكثير من الأوراق للتأثير في سوريا وحولها، ولها صلات طيّبة مع اللاعبين الإقليميين وبالخصوص تركيا والمملكة العربية السعودية وإيران. وبالإضافة إلى ذلك، فإن أزمة اللاجئين وإقامة مئات الآلاف من السوريين في ألمانيا إلى جانب الوجوديْن التاريخيين التركي والكردي، من العوامل التي ستجعل الأزمة السورية “أزمة أوروبية وألمانية” في نفس الوقت.
بعد ربع قرن من سقوط جدار برلين انقسمت أوروبا من جديد من بوابة الحدث الأوكراني في 2014. وبدا الاتحاد الأوروبي عاجزا عن التحكم في إدارة الأزمة، ولولا اتفاق مينسك بفضل التعاون الفرنسي – الألماني لربما تعقّدت الأمور أكثر. وإذا كان عام 2015 عام أزمة اللاجئين والإرهاب في أوروبا، فإن بدايات العام 2016 لم تكن مبشّرة في سوريا مع تعثر محاولة إطلاق المسار السياسي واستفحال التصعيد العسكري والتوتر الروسي – التركي وتبعاته السياسية والأمنية، وكذلك على تدفق اللاجئين الذي أبرز الانكشاف الأخلاقي للكثير من الدول والقيادات في أوروبا بالإضافة إلى انكشاف استراتيجي بسبب الاندفاعة الروسية والحاجة الدائمة للمظلة الأميركية.
تلقي التغريبة السورية بظلها على المقاربة الأوروبية للنزاع السوري بشكل عام، وعلى العلاقة الألمانية – التركية بشكل خاص. وأمام تناغم أميركي أكبر مع روسيا والأكراد، يعتمد رجب طيب أردوغان على تفهّم ألماني حيال هواجسه السياسية والأمنية مع روسيا ومع قوات الحماية الكردية. ومن جهتها، لا يمكن للمستشارة الألمانية وسيدة الاتحاد الأوروبي أن تكتفي بارتفاع رصيدها الإنساني والمعنوي نتيجة دعوتها للانفتاح واحترام أوروبا لتاريخها، لكن من الناحية العملية، تتأثر ميركل بالخشية من استمرار تدفق النزوح وعدم القدرة على الاستيعاب، وتقاعس بقية الدول الأوروبية. وهذه العلاقة العملية الملزمة بين برلين وأنقرة تدفعهما إلى التوافق على أن منع تدفق اللاجئين إلى أوروبا بشكل غير شرعي، يتطلب خططا متكاملة ودعما مباشرا (بما فيه ربما إقامة منطقة آمنة على الحدود التركية السورية).
في مواجهة أسلوب باراك أوباما وفشله المعنوي والأخلاقي، وإزاء حملة الانتقام الروسي وتغاضي جوقة العهر الدولي وإيغال الكثيرين بالدم السوري، يبرز في النزاع السوري البعد الإنساني للدور الألماني، لكن المطلوب في مواجهة التطورات المزيد من الانخراط الأوروبي السياسي ومن الدور الوسيط الألماني إن مع روسيا أو مع تركيا وغيرها من اللاعبين الإقليميين. ومما لا شك فيه أن تحالفات إقليمية ودولية جديدة سترتسم تبعا لتطور أزمات الشرق الأوسط وآفاقها.
مع دور ميركل تعود بنا الذاكرة إلى زيارة الإمبراطور غليوم الثاني إلى دمشق في 1898 وتبشيره، حينها، بالتحالف الألماني العثماني المسلم. من يدري أين سيتموضع هذا الطرف أو ذاك، أو كيف ستغيّر اللعبة الدولية الكبرى الدائرة حاليا مسارات العلاقات الدولية. ألم تظهر بعض البوادر مثل العودة القوية لروسيا والانكفاء الأميركي والتطبيع مع إيران وانهيار دول مركزية وانتشار الإرهاب، أو لقاء البابا فرنسيس والبطريرك الروسي الذي كان عنوانه حماية الوجود المسيحي في الشرق. لكن ماذا عن أوروبا وتركيا واللاعبين العرب وأيضا إسرائيل؟ سترتبط الأجوبة بالخلاصات السورية، وما ستتمخض عنه باقي اختبارات القوة في الإقليم الملتهب.
المصدر : العرب