مقالات

سلامة كيلة – خمس سنوات من الثورة.. هل تغيرت بنية الدولة؟

رفعت الثورات شعار إسقاط النظام، ومع الوقت بدا أن الأمر منحصر في شخص الرئيس، وهو ما جعل الطبقة المسيطرة تبقي الدولة كما هي دون أن يشير أحد إلى أن ذلك يعني استمرار النظام. فالنظام هو البنية التي تقيمها الطبقة المسيطرة في أجهزة الدولة لكي تُخضعها لمصالحها، ولخدمة سيطرتها.

يتعلق الأمر هنا بالأجهزة التي يتم “الحكم” من خلالها، والتي تفرض سيطرة طبقة. وأساسها الأجهزة الأمنية والشرطة والجيش، وهي القوى القمعية التي تفرض السلطة وتحميها. إضافة إلى البيروقراطية ونظام التعليم والسيطرة الأيديولوجية، و”الدين”، والقضاء، ومن ثم الإعلام.

فعبر كل ذلك تتحقق السيطرة الطبقية، ولهذا تُحدَّد “العقيدة” التي تمارِس وتقوم على أساسها، فيجري تدريب عناصر الأجهزة الأمنية على مبدأ الخضوع للنظام واعتبار كل مختلف عدوا، ومن ثم يصبح كل الشعب عدوا يجب الحذر منه وملاحقته، وممارسة كل أشكال العنف ضده.

إن جهاز الشرطة وقوات الجيش تُبنى عقيدتهما على سياسة عدائية للشعب، وخصوصا من يتصدر منه للشأن العام. الشعب بالنسبة لهما عدو، و”الخيِّر” المحظي بالدعم هو فقط من يمدح السلطة ويخدم تلك الأجهزة. إن “العقيدة الأمنية” لهما تقوم على العداء للشعب، والعمل المستمر على إخضاعه وإهانته والشك فيه وابتزازه.

كما تخضع الوظائف وتخصص لمن يتملّق النظام، وخصوصا الرتب العالية، لكي تنفِّذ ما تفرضه الطبقة المسيطرة، ويخضع نظام التعليم لما يخدم تلك الطبقة، سواء من خلال تعميم قيم الخضوع والقبول بكل قيم الطبقة المسيطرة، أو بتدمير التعليم والانطلاق من تعليم لا يعلِّم شيئا، سوى الجهل، ويخضع لأيديولوجية مختلطة قروسطية “حداثية”، لكنها تقوم على تمجيد النظام وتعليم الشعب الخضوع، وتعميم قيم ليبرالية اقتصاديا ومحافظة -بل رجعية- مجتمعيا، من خلال التحكُّم بالمؤسسات الدينية والمدرسة والإعلام.

كل هذه المسائل هي جزء تكويني في بنية الدولة، وهي نتاج مصالح الطبقة المسيطرة، وتعمم من خلال السيطرة على التعليم والمؤسسات الدينية والإعلام، أو تُفرض عبر القمع. وحين يصبح مطلوبا إسقاط النظام لا بد من تغيير مجمل هذه البنى والعقيدة التي تحكم، لأن الدولة يجب أن تعبّر عن مصالح طبقية أخرى، وبالتالي بنى وسياسات مختلفة.

ما حدث بعد الثورات لم يسِر في هذا المسار، بل جرى “تخبية” بعض الأجهزة أو تغيير أسمائها أو إبعادها عن النظر بشكل مؤقت، حيث جرى التركيز على مستوى آخر هو شكل النظام السياسي من خلال التركيز على “المسار الديمقراطي” وإلهاء الشعب بالحديث عن الديمقراطية والانتخابات، واعتبار أن هذا هو الطريق الذي يحقق مطالب الشعب عبر انتخاب “ممثليه”.

فالأجهزة الأمنية ظلت تمارس نشاطها وفق العقيدة الأمنية التي تأسست عليها، ولم يجر حلها أو إعادة بنائها وفق عقيدة أمنية جديدة، ولذا عادت هذه الأجهزة -التي أخفيت أو غيرت أسماؤها، والتي كانت تمارس العنف بشكل بشع قبل الثورات- بعد الاعتقاد أن الثورات تراجعت وأنه يمكن أن يعاد تشغيلها.

وهكذا ظلت تخدم المصالح ذاتها وتمارس الممارسات ذاتها، وظلت عقيدتها تقوم على العداء للشعب، وتنفيذ أوامر سحق كل حراك أو احتجاج، وممارسة أبشع العنف ضد المعتقلين.

لقد حرصت الطبقة المسيطرة على أن تظل أجهزة الدولة كما هي، وألا يجري العمل على التعديل أو التغيير فيها، حتى في الحدود الدنيا، وإن تم ففي الأشكال فقط، فهذه هي أدواتها لبقاء سيطرتها، وأي تغيير فيها يمكن أن يفتح على ضعف دولتها، ومن ثم نجاح الحراك الشعبي في تغييرها.

إن أول ما عملت عليه هذه الطبقة هو تلك المناورة التي تمت عبر الجيش وأظهرت أن “النظام” قد سقط من خلال إبعاد الرئيس، من أجل أن تحافظ على أجهزة قمعية اشتغلت على بنائها سنوات طويلة وأصبحت خاضعة لقرارها، وتشبعت عقيدتها الأمنية. ولا شك أنها نجحت في ذلك من خلال إبعاد التركيز عليها كما أشرت، و”تخبية” ما كان ذو سمعة سيئة، قبل أن يعاد تشغيله بعد من جديد.

وظل الجيش قوة قمعية داخلية، ولم يجرِ الشغل على بلورة “عقيدة” جديدة تجعله قوة لحماية الوطن بالتحديد، دون أن تكون مهمته التدخل في السياسة الداخلية. كما أن مهمة الأجهزة الأمنية حماية الوطن وليس التدخل في السياسة، ومن ثم يجب وضع “عقيدة” تحرم عليها التدخل في السياسة، وتحدد دورها في ضبط الأمن العام.

أما القضاء فقد ظل في وضعه السابق، حيث يخضع لسيطرة السلطة التنفيذية، أو يخترقه الفساد، وبالتالي يحكم بما تمليه السلطة.

ولا شك في أن “بيروقراطية الدولة” ظلت كما هي، ربما مع إبعاد بعض الذين كانوا مفضوحين، وظلت مهمة الأجهزة الإدارية تنفيذ قرارات السلطة بتراتبيتها وبيروقراطيتها وامتيازاتها، خصوصا هنا الفئات العليا التي كانت تحظى بمصالح مباشرة عبر الأجر، وغير مباشرة عبر الخدمات والتسهيلات التي يتحصل عليها من قبل الدولة.

ومن ثم ظل نظام التعليم دون أن يُمس، بكل “تفاهته” وسطحيته وفشله. ووفق المنظور الذي يؤسس لتطويع الفئات الشبابية لفكر تابع وخانع، ويكرر قيما “تقليدية”، أي متخلفة، بل معادية لكل تفكير في التطور وتجاوز التخلف، ودون أن يقدِّم له منظورا نقديا تحليليا.

وفي السياق ذاته كانت تعمم أيديولوجية “تقليدية” وأصولية، معادية للتحرر والتطور، وتفرض الخضوع وتبرر السيطرة. كما ظل استغلال الدين جزء من هذه المنظومة الأيديولوجية القائمة، الدين بشكله الذي تبلور في القرون الوسطى، دين الخضوع والخنوع وقبول النهب والفساد.

وإذا كانت الثورة قد فرضت تعميم بعض الحريات، وفتح النقاش حول التغيير، فقد عملت النظم “الجديدة” على “أكلها” وقضمها، وحتى إلغائها تحت حجة “الحرب على الإرهاب”، ومن ثم عادت الانتخابات كما كانت قبل من حيث هيمنة الأجهزة الأمنية، والتزوير، وفرض برلمانات خاضعة تابعة.

وعليه فإذا كانت الطبقة المسيطرة قد فرضت “المسار الديمقراطي” كخيار من أجل لفت الأنظار عن المشكلات الحقيقية باستغلال ميل النخب إلى “الدمقرطة”، فقد عادت أمام تعمق الأزمة المجتمعية، وعدم نهاية الحراك واستمرار احتمال تفجُّره إلى أن تفرض هيمنة مجتمعية، ربما أسوأ مما كان قبل الثورات في بعض الأحيان.

وإذا كانت الثورات قد نجحت -وهي ترفع شعار إسقاط النظام- في إزاحة الرئيس ومجموعة صغيرة من المحيطين به، فقد ظلت الدولة كما هي، رغم بعض الرتوش التي كانت ضرورية في الفترة الأولى من الثورات، ثم جرى التركيز لاحقا على التخويف من انهيار الدولة، وتعميم فكرة التمسك بها، ورفض كل ما يضعفها، وبالتالي السعي لقبول إعادة دور أجهزتها التي لم تتغير.

كل ذلك يعني أن النظام لم يسقط، وأن تغييرا شكليا حدث من أجل الحفاظ على النظام ذاته. وأن كل المناورات التي جرت وتجري هدفها الحفاظ على بنية الدولة التي صيغت من قبل الطبقة الرأسمالية المافيوية المسيطرة، والتي تريد استمرار سيطرتها دون التنازل عن مكاسبها.

ولأجل ذلك قاتلت تلك الطبقة، وقاتلت الفئة المسيطرة في الدولة من أجل عدم التغيير، ثم قاتلت لاحقا لإعادة سيطرتها بشكل يكرر ما كان من قبل أو حتى أسوأ مما كان، فهي لا تريد التخلي عن نمطها الاقتصادي، وبالتالي عن نمط السيطرة الذي فرضته لكي تكرس هذا النمط. ولهذا كان كل همها يتمثل في إبعاد دولتها عن سهام النقد، وعن دعوات التغيير.

لقد أعلت تلك الطبقة من نبرة الخوف من “انهيار الدولة” بحجة أنها حامية اللحمة المجتمعية، ولكن في الحقيقة لأنها أداة سيطرة الطبقة الرأسمالية المافيوية، ومن ثم فهي وسيلة إفشال الثورة التي تحقق مطالب الشعب.

وهذا ما كانت تقوله الماركسية، حيث يجب “هدم الدولة”، بالضبط من أجل إعادة بنائها على أسس مختلفة ولتحقيق مصالح أخرى، والهدم هنا لا يعني التدمير بل يعني تغيير العقيدة الأمنية والأيديولوجية التي تحكم الدولة، وإعادة بناء الجيش والأمن على أسس جديدة تخدم مصالح الشعب، وإعادة بناء التعليم بما يؤسس لتفكير نقدي، وأيديولوجية تمثل التعبير عن مصالح طبقة جديدة.

الثورة يجب أن تفرض إعادة بناء الدولة والتعليم والأيديولوجية، وتحييد الدين، فالطبقات الشعبية تحتاج دولة مختلفة، تحقق مصالحها، وتخدم تطور المجتمع، وأمنه القومي.

المصدر : الجزيرة نت 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى