مقالات

بكر صدقي – في الفيدرالية والنقاش الدائر حولها

تزامن الإعلان عن مشروع كيان فيدرالي، في مؤتمر عقده حزب الاتحاد الديمقراطي مع حلفاء له في مدينة الرميلان، مع محاولة ستيفان دي مستورا نقل المفاوضات الجارية في جنيف، بين وفدي النظام الكيماوي والمعارضة، من الشكل إلى المضمون، ومن المناكفات إلى الجوهر، أي، باختصار، إلى البحث في المرحلة الانتقالية ومتطلباتها.

لم يكن مفاجئاً أن النظام والمعارضة اللذين لم يتفقا، طوال السنوات الخمس من الثورة والحرب، ولا يحتمل أن يتفقا في المستقبل القريب، على أي شيء، قد اتفقا على رفض إعلان الفيدرالية، في دلالة مشؤومة على الصفة السالبة للوطنية السورية كما لو كانت هي الوحيدة الممكنة، وهي الوطنية القائمة على رفض الآخر وتطلعاته.

غير أن رفض الفيدرالية لم يقتصر على النظام والمعارضة، بل شمل أيضاً حلفاء لـ»الاتحاد الديمقراطي» في «مجلس سوريا الديمقراطية» كهيثم مناع الذي، للمفارقة، كان السوري الوحيد الذي تحدث عن نسبة مئوية من الأرض السورية تسيطر عليها القوات التابعة لمجلسه المذكور. قد نفهم من هذه المفارقة أن المناع يطالب بحصة في السلطة المركزية تعادل حصته المفترضة من الأرض، في حين اتجه حليفه صالح مسلم إلى خيار تكريس السيطرة على تلك الحصة من الأرض، مقابل القطع مع الدولة المركزية.

وأعلنت الولايات المتحدة رفضها الصريح لـ»الحكم الذاتي» كما أسمته، وظلت إشارة نائب وزير الخارجية الروسي إلى «سوريا فيدرالية»، قبل إعلان الرميلان بفترة، يتيمة ولم يتبعها تشجيع روسي لحليفها مسلم على المضي في خيار الفيدرالية. وبطبيعة الحال كان الرفض الأكثر تشدداً وصخباً من تركيا التي تعتبر «الاتحاد الديمقراطي» منظمة إرهابية، وتخوض حرباً مفتوحة ضد «العمال الكردستاني» والمناطق الكردية جنوب شرق الأناضول، منذ الصيف الماضي. وتشي عودة الدفء إلى العلاقات التركية ـ الإيرانية بتقاسم الدولتين المخاوف ذاتها بخصوص أي كيان كردي محتمل في شمال سوريا وشرقها، بما يذكرنا بالمحور التقليدي (طهران ـ بغداد ـ أنقرة) الذي لا يملك أي قواسم مشتركة بين دوله غير مواجهة أي تطلعات كردية في أي من الدول الثلاث.

وحدهم الكرد تحمسوا لإعلان الرميلان، بوصفه خطوة جديدة نحو الاستقلال في دولة حرموا من قيامها وتمسكوا بالحلم بها طوال قرن مضى. ترى هل من العقلانية، في ظل رفض جماعي سوري ـ إقليمي ـ دولي، أن يتجه كرد سوريا، أو حزب الاتحاد الديمقراطي، إلى خيارات تضعهم في عين العاصفة؟

من المرجح أن الحزب الكردي الذي يعمل تحت المظلة الأوجالانية، ويحرص على خلوِّ اسمه وأسماء المنظمات المتفرعة عنه من صفة «الكردي/الكردية»، ويستلهم من زعيمه الأسير في تركيا فكرة «الأمة الديمقراطية» العابرة للاثنيات والثقافات، يعرف تماماً أن إعلان الفيدرالية سيضعه في مواجهة مع الجميع، دولاً إقليمية ودولية، ومكونات اجتماعية سورية، ونظاماً ومعارضة في سوريا، بل كذلك مع قوى سياسية كردية سورية تناصبه العداء (المجلس الوطني الكردي المشارك في الائتلاف السوري المعارض).

وهذا مما يرجح التفسير القائل بأن إعلان الفيدرالية لا يعدو كونه ابتزازاً سياسياً وورقة للمساومة، بهدف إشراك «الاتحاد الديمقراطي» في مفاوضات جنيف، أو في أي ترتيبات محتملة لمستقبل الكيان السوري، ممثلاً عن المكون الكردي. وهذا المطلب يتمتع، كما نعرف، بـ»شعبية» واسعة لدى الروس والأمريكيين والأوروبيين والنظام الكيماوي معاً، كل لأهداف تخصه.

الفترة القادمة ستحكم على هذه القفزة في المجهول: هل سيؤتي الابتزاز أكله فيصبح الاتحاد الديمقراطي طرفاً ثالثاً على طاولة المفاوضات حول مصير سوريا، أم أن خلط الأوراق وتغيير التحالفات الذي نتج عن إعلان الرميلان هو عملية غير قابلة للعكس، ستؤدي إلى عزل الاتحاد الديمقراطي وحرمانه من ثمرات الابتزاز؟ 

والآن ماذا بشأن تطلع كرد سوريا إلى وضع دستوري أكثر عدالة، من وجهة نظرهم، من التهميش السياسي ـ الثقافي ـ الاجتماعي الذي عاشوه طوال عمر الكيان السوري، وذلك بصرف النظر عن الحسابات السياسية لحزب الاتحاد الديمقراطي؟

كان من حسنات إعلان الرميلان أنه وضع المسألة الكردية برمتها على طاولة النقاش الجدي، للمرة الأولى في التاريخ السياسي لسوريا. وعلى رغم أنه من الصعوبة بمكان عزل الموضوع عن الممارسات السياسية لحزب الاتحاد الديمقراطي (وتتضمن هذه، فيما تتضمن، حكم دكتاتوري عسكري أحادي في مناطق سيطرة الحزب، واجتياح عسكري لمناطق عربية مجاورة، وتهجيراً قسرياً لسكان قرى عربية، وتحالفاً مع روسيا إبان حربها على الشعب السوري، وتبادل مصالح مع نظام دمشق المجرم…) فمن الحصافة الوطنية استثمار هذه الفرصة في نقاش جدي يبتعد عن التشنج والعداء والاستعداء، ويركز على جوهر المشكلة: هل يمكن للكرد أن يفرضوا نموذج النظام الفيدرالي من طرف واحد؟ وهل يمكن للعرب السوريين أن يرغموا الكرد على العيش في دولة مركزية واحدة؟ أليس الخيار البديل، في الحالتين هو الحرب الأهلية؟ وكيف يتسق زعم المعارضة أنها تعمل على إسقاط النظام للانتقال إلى نظام ديمقراطي، مع خيار قسر جماعة قومية كاملة على «العيش معاً» بقوة السلاح؟

الحلم الكردي بالاستقلال ليس وهماً إيديولوجياً، بل هو رد طبيعي على تهميش مستمر لم ينقطع، وعلى حرب مفتوحة عليهم لم تتوقف، طوال قرن. هناك صعود مطرد في الوعي الذاتي للكرد كجماعة متمايزة، لا يمكن مواجهته بدعاوى ساذجة من نوع أن الحل هو في «دولة ديمقراطية قائمة على المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن العرق والدين والجنس». لقد تجاوز التاريخ الواقعي حلولاً طوباوية من هذا النوع. ما كان ممكناً في زمن مضى لم يعد كذلك اليوم، في وقت نشهد فيه أمام أعيننا نهاية الكيان السوري.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى