لم تكد تنقضي الجولة الثانية من مفاوضات جنيف-3 حتى طار وزير الخارجية الأميركي “جون كيري” إلى موسكو، ليعقد اجتماعاً هو الأطول من نوعه مع الرئيس الروسي “فلادمير بوتين”، الذي عبر بدوره عن ارتياحه لما توصل إليه الطرفان من تفاهمات وذلك بقوله: “الآن يمكننا الحديث عن تسوية سياسية في سوريا بعد أن تخلت الولايات المتحدة عن مطلبها القاضي بتنحي الأسد”.
تصريح بوتين هذا مثل خيبة أمل كبيرة للمعارضة السورية التي تتهيأ لحضور الجولة الثالثة من اجتماعات جنيف-3، لكنه وبكل تأكيد أعطى صورة واضحة عن التصور الأميركي – الروسي الجديد لطبيعة التسوية المقترحة كحل للأزمة السورية، فاجتماع كيري – بوتين جاء تتويجاً لسلسة من الأحداث والتطورات على الساحة السورية، لعل أبرزها الانسحاب الشكلي للقوات العسكرية الروسية من سوريا، والذي يمكن القول إنه لم يكن انسحاباً بل وقفٌ لاستهداف فصائل المعارضة المسلحة في شمال سوريا وجنوبها، بعد أن تم إخضاعها وتجريدها من مساحات شاسعة من الأرض لصالح نظام الأسد ووحدات حماية الشعب الكردية، لتتوج باستعادة السيطرة على مدينة تدمر من يد تنظيم الدولة الإسلامية.
الأمر الذي كشف عن تنسيق عسكري غير مسبوق بين كافة الأطرف المنخرطة عسكريًّا في سوريا، حيث شارك طيران التحالف الدولي في عملية تقديم الإسناد الجوي لقوات الأسد في القسم الشرقي من المدينة، في حين شاركت قوات جوية وبرية روسية في العملية برمتها، وهو ما يكذب الادعاءات الروسية بالانسحاب من سوريا.
اجتماع كيري – بوتين سبقه عدة اجتماعات لمدير وكالة الاستخبارات الأميركية مع مسؤولين استخباراتيين وسياسيين روس، وهي اجتماعات قيل إن الهدف من ورائها كان محاولة إقناع روسيا بضرورة التخلي عن الأسد، لكن أفعال وأقوال كلا الطرفين أثبتت عكس ذلك.
فالطرف الأميركي يبدو اليوم شديد الحرص -وربما أكثر من روسيا نفسها- على مسألة عدم رحيل الأسد، أقله لحين الانتهاء من إنجاز مشروع التسوية الذي بدأت ملامحه تتبلور مؤخراً من خلال ما قيل إنها تسريبات لمشروع روسي – أميركي تم إطلاع عدة عواصم عربية عليه.
الخطة المسربة تتمثل في ثلاث نقاط رئيسية وهي:
أولا: انتخابات برلمانية بإشراف أممي، وبما يضمن مشاركة واسعة للسوريين داخل وخارج سوريا، وهو ما يمكن أن يعطي هكذا انتخابات مصداقية هي بأمس الحاجة إليها سيما وأن ما سيليها من خطوات يعتمد على هذه الانتخابات اعتماداً كليًّا، التسريبات لم توضح نوع وشكل ولا مكان وزمان الانتخابات البرلمانية المقترحة، وإن كان من المرجح أن تتم في شهر آب/ أغسطس من هذا العام.
نظام الأسد بدوره كان قد أعلن عن نيته تنظيم انتخابات برلمانية بتاريخ الثالث عشر من شهر نيسان/أبريل من هذا العام، وهو ما رفضته كافة الأطراف الدولية بما فيها المبعوث الدولي دي ميستورا، الذي بادر إلى تحديد يوم التاسع أو الحادي عشر من نفس الشهر كموعد لانطلاق الجولة الثالثة من محادثات جنيف-3، وهو ما دفع نظام الأسد للإعلان عن تأجيل موعد الانتخابات إلى الشهر الخامس، هذه الانتخابات التي كان قد استبقها بعدة تعديلات دستورية تسمح للعسكريين ولأول مرة بالمشاركة في الاقتراع، كذلك السماح باستخدام بطاقة الهوية العسكرية، إضافة إلى نقل مراكز الانتخابات من محافظة إلى أخرى.
ثانياً: إقرار دستور جديد، حيث من المرجح وبحسب التسريبات أن تتم صياغة الدستور الجديد “أمميًّا لا سوريًّا” وبحيث يراعي التركيبة الجديدة للبرلمان إضافة إلى مراكز الثقل السياسي الجديدة، مع التأكيد على “ديمقراطية وعلمانية الدولة السورية”، إضافة لإرضاء الأغلبية المسلمة السنية بالإبقاء على الدين الإسلامي “كأحد مصادر التشريع”.
ثالثاً: انتخابات رئاسية، ما زالت مسألة مصير الأسد هي النقطة الأكثر غموضاً في كل ما يثار حول مشاريع التسوية السياسية للأزمة السورية، فمن قائل بإمكانية مشاركته في أي انتخابات قادمة إلى قائل بالرفض القاطع، لكن وبلا أدنى شك فإن مصير الأسد بات مرتبطاً وبشكل وثيق بمدى القدرة على إنتاج هيئة حكم متجانسة تستطيع المحافظة على أجهزة ومؤسسات الدولة بما فيها الجيش والأمن وتعزيز قدراتهما من خلال دمج عدد من فصائل المعارضة المسلحة المصنفة معتدلة فيهما.
من المرجح وبحسب الخطة المقترحة أن يكون منصب الرئيس المقبل منصباً منقوص الصلاحيات وإلى حد كبير، وذلك لصالح حكومة أغلبية برلمانية، ما يعني أن أي رئيس لن يكون باستطاعته العمل منفرداً إلا بعد الرجوع إلى مؤسسات الدولة المختلفة وعلى رأسها الحكومة.
كثيرة هي الخطط والمشاريع المقترحة والتي لم يتم تطبيق أي منها، لكننا نقف اليوم أمام مفترق طرق جديد، خاصة بعد التوافق الروسي الأميركي على فرض تسوية على كلا الطرفين، هي تسوية لم تتطرق إلى مسألة الأكراد وفيدراليتهم المعلنة، وهي كذلك قد لا ترضي المعارضة، ولا حتى نظام الأسد الذي يبدو أنه أكبر الرابحين، فهكذا حل ليس سوى مكافأة له على كل ما ارتكبه من جرائم بحق سوريا والسوريين.
إن خطة الحل المسربة هذه لا بد وأنها ستعتمد مبدأ المحاصصة إرضاء لكافة الأطراف محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، وذلك ضماناً لمشاركة الجميع وانخراطهم في التسوية، وبالتالي فهي بداية لما يمكن تسميته عملية “لبنَنَةُ” سوريا، هذا إن لم يكن تقسيمها، لكن يبقى السؤال هو: هل ستستطيع هذه الأطراف فرض هكذا تسوية في ظل وجود قوى مسلحة فاعلة على الأرض ورافضة لهكذا مشاريع؟ وما هو مدى تجاوب السوريين مع هذه الخطة؟ علينا الانتظار قليلاً فقد نحصل على بعض الإجابات مع انتهاء الحلقة الثالثة من الجزء الثالث من مسلسل جنيف السوري.
المصدر : هاف بوست عربي