مقالات

أحمد جرار – صعود تنظيم الدولة الإسلامية

شكل صعود تنظيم الدولة الإسلامية في المنطقة واحداً من أكثر المواضيع جدلاً في الفضاء السياسي والإعلامي ولا نزال حتى اليوم نسمع تحليلاتٍ ودراسات تحاول الإجابةَ عن الكثير من الأسئلة الغامضة المحيطة بهذا التنظيم الذي حوَّل الصورة الذهنية لمصطلح “الدولة الإسلامية” لكثيرين إلى مجرد إنسان مقنّع يحمل رأساً تقطر منه الدماء.

خلافاً لكثير من التحليلات والأحكام المعلبة؛ فأنا أرى التنظيم بمثابة الظاهرة المركبة التي ساهمت عواملُ عدة في تشكيلها، وأرى أن عالمنا العربي يوجد به عدة نسخ من التنظيم ليس بالضرورة أنها متشابهة.

فالعوامل والمتغيرات التي ساهمت بظهور التنظيم في سيناء مثلا، قد تختلف بشكل كبير عن عوامل ظهوره وتمدده في سرت، أو في اليمن، أو حتى في سوريا، وقد تكون العوامل المشتركة أقل مما تبدو في ظاهر الأمر.

التنظيم لم يخرج من العدم

خلافا لكثير من التحليلات التي تشعرك بأن العالم استيقظ ذات صباح، فوجد مقاتلين مقنعين مدججين بالأسلحة ويرفعون راية الخلافة دون أي سابق إنذار، فإن التنظيم في بنيته الرئيسية كان بمثابة الوريث غير الشرعي لتنظيم القاعدة وتحديداً للفرع العراقي الذي سبق وأن تزعمه الأردني أبو مصعب الزرقاوي، وجزء كبير من القيادات الحالية سبق وأن كانت قيادات في تنظيم “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”، وهم مزيج من مقاتلين جهاديين مع ضباط وأفراد سابقين في الجيش العراقي.

حصادٌ للقمعِ والاستبداد والفشل

المتتبع للمناطق التي برز فيها التنظيم وتمدد يكاد يلمح عدة عوامل مشتركة فيها.

أولاً: وجود نظام مستبد قمع الناس بوحشية وارتكب انتهاكات بشعة خلّفت في نفوس الكثيرين غضباً وألماً ورغبةً بالثأرِ والانتقام إلى درجة يمكن القول فيها بأن تمدد التنظيم داخل بلد ما يتناسب طرديا مع زيادة وحشية وجرائم النظام في ذلك البلد.

ويكتسب التنظيم أنصاراً ومتعاطفين أكثر في حال كان الظلم والاضطهاد قد وقع على مكون معين كما حصل مع السنّة في العراق.

ثانياً: انسداد أفق التغيير السلمي فقد مثّل الربيع العربي تحديا ليس فقط للأنظمة المهترئة بل للتيارات التي تؤمن بالتغيير عبر القوة والعنف، حيث أعطت الثورات لا سيما في بداياتها أملاً للملايين من الشباب العربي بإمكانية تغيير الأنظمة الاستبدادية والفاسدة من دون كلفة بشرية كبيرة، وعبر مظاهرات سلمية تحافظ على الدولة ومؤسساتها ولا تلقي “بالبلد” في مهب الريح، لكن مع انكسار الثورات والتآمر عليها وجرِّها نحو مربع العسكرة، عاد سوق التيارات الجهادية للانتعاش، كيف لا وبيدهم هذه المرة دليلاً دامغاً على أنّ التغيير السلميّ لا يحقق أحلام الناس بدولة الحرية والعدالة والكرامة، ويمكن بسهولة ملاحظة الخطاب الساخر لدى أنصار تنظيم الدولة من جماعات الإسلام السياسي؛ التي اختارت الانتخابات وصندوق الاقتراع وسيلة للوصول إلى السلطة ،وصلت إلى درجة الشماتة بالتنكيل والقمع الذي تعرضت له تلك الجماعات واعتبار ذلك عقاباً من الله لتقاعسهم عن تغيير
“منكر الأنظمة” بالقوة.

ثالثاً: تمدد في الفشل رغم الصبغة الأيدولوجية التي تطغى على خطاب التنظيم إلا أن جاذبيته لدى كثيرين لم تكن بسبب ذلك بل كان باختصار؛ لأنه استطاع أن يملأ مكان الدولة ويقدم للناس منظومة بديلة من الخدمات والاحتياجات الأساسية التي عجزت الأنظمة الفاشلة عن تقديمها.

استثمار في التوحش

خلافا للتحليلات التي تحاول تفسير صعود التنظيم على أنه صنيعة طرف ما بعينه – كأن يقال بأنه صنيعة إسرائيلية أو أمريكية أو إيرانية أو صنيعة نظام الأسد أو أجهزة المخابرات العربية – برأيي أن التنظيم ليس صنيعة أحد وأن هناك فرق بين الصناعة والعمالة، وبين التوظيف والاختراق والاستثمار وكما أسلفت من قبل فإن النواة الصلبة للتنظيم جاءت عبر وراثة تنظيم القاعدة في العراق.

لكنّ أطرافاً عدة سعت للاستثمار بهذا التنظيم ولمآرب مختلفة، فالكل كان يبحث عن “الوحش” الذي يخدم أهدافه ويبرر بقاءه وكل هؤلاء وجودوا ضالتهم في “تنظيم الدولة” فتمدده في بعض الأحيان لم يكن بسبب قوته وصلابة مقاتليه، بل برغبة أطراف أخرى في تضخيمه ونفخه واتخاذ محاربته بعد ذلك وسيلة لقهر الناس وسحقهم ووضعهم أمام مفارقة مفادها إما أن ترضوا بحكمنا الفاسد الفاشل وإما ان يأتيكم من يحكمونكم بالسكاكين التي تقطر منها الدماء.

رغم أن هذا الأمر أعطى في بعض الأحيان مفعولا عكسيا فالقوة التي بلغها التنظيم في بعض البقاع كانت أكبر مما أريد له فأصبحت محاولة اقتلاعه أمرا بالغ الكلفة.

من هم المستثمرون؟

برأيي أن هناك طرفان رئيسيان استثمرا ظهور تنظيم الدولة وسعيا لاختراقه وتوظيفه ونفخه لصالحهما.

الأول: أنظمة الثورات المضادة وأنظمة القمع والاستبداد فهي أرادت أن يصل الناس لقناعة مفادها ألا ليت الربيع لم يطرق بوابة عالمنا العربي يوماً.

لذلك كان ظهور التنظيم بمثابة طوق النجاة لتلك الأنظمة ولأجهزتها الأمنية الراغبة في إيجاد شماعة لمواصلة انتهاكاتها البشعة بحق معارضيها وسحق كرامتهم عبر رفع شعار محاربة “الإرهاب” .

الثاني: في “التنظيم” هي إيران وأذرعها وميليشياتها في المنطقة ويبدو أن المخابرات الإيرانية ومن خلال خبرتها في إدارة العلاقة – مع تنظيم القاعدة – في كل من أفغانستان والعراق خلال الاحتلال الأمريكي لكلا البلدين، قد تعلمت كيفية توجيه حراب ذلك التنظيم لصدور خصومها بعيدا عنها وسعت لتوظيف ذلك في حماية الأنظمة الحليفة لها داخل العالم العربي، كانت إيران تدرك وفي ظل الإجرام البشع الذي مارسه نظام الأسد وفي ظل الممارسات الاستبدادية والطائفية التي صبغت حكم المالكي أنها بحاجة لخَصمٍ دموي وقاسٍ، تبرر فيها تدخلها الطائفي الفجّ لصالح أنظمة مجرمة وفاشلة فوجدت هي أيضا ضالتها في “تنظيم الدولة” فهي جعلته شماعة لتبرير أكاذيبها عن سبي زينب والعتبات المقدسة وسهل عليها مهمة إرسال أتباعها لمحرقة مشروعها عبر إيهامهم أنهم أمام حرب مقدسة فإما أن تَذْبَحَ وإما أن تُذبح ، رغم أنّ النّاس خرجت أصلا في سوريا والعراق للمطالبة بالحرية والكرامة وليس لأنّ بشار علوي أو لأنّ المالكي شيعي.

ثانياً: هي تستخدم ورقة التنظيم في تبرير تدخلاتها وهيمنتها في المنطقة عبر تقديم نفسها كطرف فاعل في محاربة الإرهاب والتكفيريين، كما أنها لعبت بهذه الورقة أمام القوى الغربية في سبيل تدعيم صورتها أمامهم لا سيما خلال جولات المفاوضات حول ملفها النووي وسعي طهران لاستعادة ملياراتها المجمدة بسبب العقوبات.

كيف جاء الاستثمار والتوظيف؟

يمكن القول إن بنية تنظيم الدولة وسعيه للتمدد والسيطرة وكسب مزيد من المقاتلين الراغبين بالانتقام والحالمين بالعيش تحت ظل “الخليفة” جعلت من السهل اختراق التنظيم وعلى عدة مستويات فخلافاً للانطباع السائد بأن مقاتلي التنظيم هم إسلاميون متشددون فقد كشفت كثير من الشواهد ضعفاً كبيراً لدى عناصر التنظيم بالعلم الشرعي والفقه وأصوله وبعضهم كان حتى الأمس القريب يعيش حياة أبعدَ ما تكون عن التدين والالتزام بل إن بعضهم كان يرى عضوية التنظيم بمثابة التطهر من دنس حياته السابقة وطريقا للغفران من الموبقات التي كان يرتكبها.

على عكس تنظيمات عسكرية مثل كتائب القسام أو حزب الله والتي يخضع فيهم الفرد لتجربة اختبار قاسية وصارمة ومرحلة إعداد عقائدي وتربوي ونفسي طويلة فإن عضوية تنظيم الدولة تبدو وكأنها نزهة مقارنة مع تلك التنظيمات، حيث تواترت الشهادات الموثوقة وفي أكثر من ساحة عربية عن أشخاص هامشيين ذوي قدرات محدودة تحولوا في ليلة وضحاها إلى أمراء يفتون في دماء الناس.

وليس من المبالغة القول إن عدداً من أجهزة المخابرات العربية والغربية والإقليمية قد نجحت باختراق التنظيم وجعلته مطية لأهدافها وخناجر في ظهر خصومها وهذا أمر يبدو جليا في سوريا وليبيا واليمن حيث كانت قوة التنظيم مضادة للقوى الثورية وحتى الإسلامية الساعية للإطاحة بأنظمة مستبدة، وكان بأسه شديدا عليها فضلا عن تكفيرها واتهامها بالردة والعمالة.

خلاصة

تنظيم الدولة ليس لغزاً معقداً بقدر ما هو نتاج لمرحلة دموية ومشوهة تعيشها منطقتنا، وساهمت عوامل عديدة في صعوده وتمدده وفي حال زوال هذه الأسباب وهزيمة المشاريع الاستبدادية والطائفية في المنطقة فإن التنظيم حتما سينحسر.

أما الحلول الأمنية والعسكرية فهي وإن نجحت في توجيه ضربات له هنا أو هناك فإن هذا لن ينهي التنظيم وحتى لو تمت هزيمته مرحليا فإن بقاء تلك العوامل لن تحول دون ظهور نسخة أخرى من التنظيم في المستقبل وقد تكون أكثر شراسة وأكثر دموية.

المصدر : هاف بوست عربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى