لا تريد واشنطن أي مقايضة مع موسكو. والعقوبات الغربية على روسيا مستمرة. نجح الكرملين في تحويل سورية بعد أوكرانيا وأوروبا الشرقية وحوض البلطيق رمزاً للصراع مع الولايات المتحدة. نجح في إعادة فرض بلاده قوة عظمى. وبات بإمكانه أن يطمئن إلى انشغال الاتحاد الأوروبي بخلافاته بين غربه وشرقه على قضية اللاجئين، واحتمال تصدعه إذا ارتأى البريطانيون الخروج منه. ولم يعد أمام وزير الخارجية جون كيري سوى التلويح بنفاد صبر إدارته. وقد نفد صبرها عملياً لأنها توكأت بالأصل على مشروع روسيا واستراتيجيتها من دون أي ضمانات، بدل أن تكون أكثر انخراطاً في أداء دور فعال من أجل التوصل إلى تسوية للأزمة الانسانية على الأقل. أزمة لم يشهد العالم مثيلاً لها منذ الحرب العالمية الثانية.
لم يعد أحد يتوقف أمام أعداد القتلى والخراب والتدمير والتجويع والحصار وموجات التهجير واللاجئين. يوم مجزرة أورلاندو سقط في مجازر متنقلة في سورية أضعاف ما سقط في المدينة الأميركية. أمام هذا الواقع هل يصدق السوريون أن ثمة تعاوناً بين اللاعبين الكبيرين أم يصدقون ما يعلنه الرئيس بشار الأسد من رفض لأي مرحلة انتقالية أو وقف للحرب أو التزام لأي هدنة؟
المفاوضات السياسية في طريق مسدود. والتعاون بين واشنطن وموسكو في طريق مسدود، ليس في الملف السوري فحسب بل في كل الملفات التي سترحل للإدراة المقبلة. لذلك، لن يكون أمام المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا سوى الاستعداد للاستقالة مع حلول شهر آب (أغسطس)، المهلة المحددة للتوصل إلى اتفاق سياسي على بدء المرحلة الانتقالية، بموجب تفاهم «مجموعة الدعم الدولية لسورية»… إلا إذا نجح في إعادة إطلاق المفاوضات على صعيد تقني للحد من التجويع وحلحلة الحصارات وإيصال المساعدات. المرحلة لشراء الوقت بانتظار السيد الجديد للبيت الأبيض. لذلك، جاءت مذكرة الديبلوماسيين الأميركيين إلى الرئيس باراك أوباما موجهة عملياً إلى الإدارة المقبلة.
فهؤلاء يعرفون جيداً أن ما طالبوا به البيت الأبيض سبق أن اقترحته وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون ومسؤولون عسكريون، وحتى وزير الخارجية كيري. لكن الرئيس حرص على الاستئثار برسم الاستراتيجية الخاصة بالمنطقة كلها وليس ببلاد الشام فحسب. وهم لا يتوقعون اليوم أي تبديل في هذه الاستراتيجية. المهم أن هذه المذكرة قد تعزز وجهة النظر الداعية إلى تدخل أكثر فاعلية ليس بالضرورة لإسقاط الرئيس الأسد أو تقليص انتشار قواته، بل لإرغامه على العودة إلى جنيف والتزام الهدنة والسير بالحل السياسي والقبول بالمرحلة الانتقالية، وتنفيذ القرارات الدولية ووقف موجة القتل والتهجير ورفع الحصار وسياسية التجويع.
المفاوضات في طريق مسدود. وستظل كذلك ما دام الرئيس الأسد لن يغير موقفه. وكذلك التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا معلق أو انتهى ما دامت الأخيرة لن تغير موقفها، أو لا تملك فعلاً الأدوات الكافية للضغط على الرئيس الأسد. بدليل الثقة الضعيفة بين الطرفين والشكوك المتبادلة، إذ هناك دوائر تلحظ امتعاض النظام في دمشق من هدنات تعلنها موسكو من دون الرجوع إليه كلما شعرت بغضب واشنطن فيما تأخذ تحذيراتها على محمل الجد. ذلك أنها لا تريد قطع شعرة معاوية معها لعلها ترتقي بالتعاون في سورية إلى تعاون أوسع ينقذها من تداعيات العقوبات الاقتصادية الغربية. وهي تعول، بتمتين علاقاتها مع إسرائيل، على دور لتل أبيب في تحريك أدوات ضغطها لمساعدتها على تحقيق بعض أهدافها. كما أنها لا تريد، من جهة أخرى، الغرق في المستنقع السوري. صحيح أنها حققت إنجازات على الأرض لمصلحة دمشق، لكنها تبدو عاجزة عن تحقيق انتصار ساحق. فحتى إدارة الرئيس أوباما وليس «أصدقاء المعارضة» من ترك وعرب فقط، لن تسمح بمسح الفصائل المقاتلة عن خريطة الصراع. بل يمدها هؤلاء بما يكفي للثبات والصمود. بل ثمة من يؤكد أن هذه الأطراف ترى إلى استعادة النظام مدينةَ حلب «خطاً أحمر». والواقع أن الرئيس السوري أتقن حتى الآن لعبة الرهان على حبلي الدعم المزدوج الذي يلقاه من موسكو وطهران. ولن يتردد بإلقاء نفسه في أحضان إيران إذا شعر بأن الكرملين يدفعه نحو شيء من التنازل لإبقاء العملية السياسية والتعاون مع البيت الأبيض حيين.
مع تعليق التفاهم بين روسيا والولايات المتحدة، تتوجه المعارضة السورية نحو الاتحاد الأوروبي. وقد ناشده «الائتلاف الوطني» و «هيئة التنسيق»، بعد اجتماعهما الأسبوع الماضي في بروكسيل، تطوير دوره في دعم الحل السياسي وإنجاحه والمشاركة الفعالة في رعاية العملية التفاوضية لتشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية. ولكن يجب ألا يغيب عن بال الطرفين المعارضين أن التعويل على أوروبا قد لا يثمر الكثير. والتجربة الطويلة في هذا المجال حاضرة في تاريخ القضية الفلسطينية. لم تستطـــع القارة العجوز طوال عقود من المنـاشدات الفلسطينية والعربية أن تحــــقق شيئاً لا ترغب فيه إسرائيل. وآخر الأمثلة الموقف من المؤتمر الذي رعاه الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند. ولا يتوقع أن تتنازل الولايات المتحـــدة أو روسيا عن دورهما لأي قوة. ويعرف أقطاب الائتلاف والهيئة أن مجموعة الدعم الدولية اختصر عملها في الأشهر الأخيرة الوزيران جون كيري وسيرغي لافروف.
ما قد يسهل على الاتحاد الأوروبي أداء دور نشط أن يقترب «الائتلاف الوطني» و «هيئة التنسيق» من الرؤية أو المشروع الغربي لمسقبل الحل. وهو ما يسعى إليه طرفا المعارضة اللذان أعلنا التوجه نحو صوغ وثيقة وطنية جديدة فيها تطوير لـ «وثيقة العهد الوطني» التي صدرت عن مؤتمر القاهرة. والمهم في هذا المجال أن تخاطب الوثيقة المخاوف الدولية، الأوروبية والأميركية وحتى الروسية. أي أن تشدد على قيام حكومة توافق يمكن أن تتوزع فيها الحصص بالتساوي مع النظام مع حصة للمجتمع المدني. وتشدّد الحرص على منع انهيار الدولة بالحفاظ على المؤسسات. وعلى إعطاء دور كامل للأقليات الطائفية والعرقية. وتعترف صراحة بالقومية الكردية كياناً يشكل جزءاً لا يتجزأ من «سورية الديموقراطية». طمأنة الأقليات والاعتراف بخصوصية الكرد ثقافة ولغة على قدم المساواة عناصر فاعلة في ملاقاة الغرب أولاً. وفي إسقاط بعض الذرائع والشعارات التي يتمسك بها النظام في حربه المفتوحة على كل السوريين. مثلما فيها استجابة واضحة للموقف الجماعي للكرد يشجعهم على الوقوف إلى جانب المعارضة لفرض التغيير المطلوب، بدل أن يظلوا خارج إطارها، سواء كانوا محايدين أو محسوبين على النظام.
هذه مهمة سياسية يجب ألا تعوقها مناكفات بين هذه الهيئة أو تلك من هيئات المعارضة. ولكي يكتمل المشروع الجديد، على الفصائل المقاتلة أن تعري دور روسيا بإلغاء الذرائع التي تتمسك بها، والحؤول دون إصرارها على وضع كل الفصائل، خصوصاً «أحرار الشام» و «جيش الإسلام» في لائحة الإرهاب والتصرف على هذا الأساس. فهي تشن غاراتها حتى على قوى دربتها الولايات المتحدة وبريطانيا ولا تفرق بين المعتدلين وأولئك المنتمين إلى تنظيم «داعش» و «جبهة النصرة». ففي ضوء تداعيات العمليات الإرهابية المتنقلة في مدن الغرب، ومع احتمال تصاعدها كلما ضاق الطوق على الحركات المتطرفة، كما توقع مدير الـ «سي آي أي» جون برينان، يستحسن قطع ما تواصل في إطار ما يدعى «جيش الفتح»، بين الفصائل المعتدلة وقوى يصنفها المجتمع الدولي إرهابية. فالمعروف أن موسكو تبرر هجماتها في محافظات حلب واللاذقية وإدلب وغيرها بصعوبة التمييز بين مواقع «النصرة» وشركائها في الميدان من فصائل «الجيش السوري الحر» وغيره من فصائل معتدلة.
إزاء لعبة شراء الوقت التي يمارسها جميع المتصارعين في الميدان السوري لا تملك المعارضة بشقيها السياسي والعسكري ترف الانتظار. يجب أن تستعد للمرحلة المقبلة ليس بتوفير مقومات الصمود المضمون حتى أميركياً، فضلاً عن دعم كثير من الأصدقاء في الإقليم، بل بالسعي إلى كسب مزيد من التأييد الدولي وهو عنصر راجح في حسابات موازين القوى. وعليها استعجال صوغ وثيقتها السياسية الجديدة وتنقية صفوفها العسكرية. فالإدارة الأميركية لم تعد تلقي بالاً إلا لتحقيق انتصار على «داعش» في العراق وسورية يسجل في إنجازاتها، ويعين حزبها في السباق الرئاسي. وموسكو تنتظر الرئيس الأميركي المقبل بعدما عجزت عن تحقيق اختراق مع الرئيس أوباما. واستنفدت ضيق يد الوزير كيري وثقته العمياء. واطمأنت إلى انشغال أوروبا بمستقبل اتحادها ووحدة سياساتها وقلقها من احتمال عودتها خط المواجهة في الحرب الباردة المتجددة. واستمرأت لعبة الهدنات الهشة والاستجابة الخجول لأصوات المجتمع الدولي المنادي برفع الحصارات وغوث المحاصرين ووقف المجازر وإرغام النظام على وقف حربه المفتوحة. وإيران تواصل تنفيذ سياساتها من دون أي تعديل بعدما ربحت مقعدها في مجموعة «الدعم الدولية لسورية».
المصدر : الحياة