مقالات

أمجد ناصر – لماذا سيسقط داعش وأمثاله

التاريخ لا يعود إلى الوراء. قد لا يمشي، في خطٍّ مستقيم، إلى الأمام، غير أنه لا يرجع إلى الوراء. مثل مياه النهر التي تصبُّ في اتجاه واحد. قد تغيّر مجراها، لكنها لا تعاكس مجراها، مثلما تفعل، في وقتٍ معين ولسبب معين، أسماك السلمون في رحلتها الانتحارية. تعمل في التاريخ قوى مختلفة الحجوم وقوة الدفع، غير أن التاريخ نفسه، بصفته معطىً، أو أمثولةً، يخبرنا أن قوى الاعتراض على المجرى العام للتاريخ وسماته الرئيسية لا تنجح في إيقافه، تماماً، ولا تتمكَّن من تغيير مجراه تماماً.

بوسعها أن تضع عارضةً، ترمي صخرةً في مجراه، وربما تتمكّن من حرفه قليلاً، غير أنه سرعان ما يستعيد مجراه. ولا مرّة رأينا هذه القوى، المعاكسة لحركة التاريخ، تنجح في السيطرة عليه. اخترع البشر الدولة في سبيل ترقّيهم وضبط أمورهم ونزاعاتهم. وهي، حتى الآن، الشكل الوحيد ليمارس فيه الاجتماع البشري حياته في أطرٍ قانونية ودستورية وأخلاقية. الدولة، بحد ذاتها، ليست عدلاً ولا ظلماً، هذا هو محتواها الذي يملأه الناس.

إنها ثمرة عقد اجتماعي بين الناس لإدارة شؤون حياتهم. لا حرية مطلقة فيها لأحد، لأنها تنشأ من تنازلٍ عن هذا “الحق الطبيعي” في سبيل العقد الاجتماعي.   ليس تنظيم داعش، بل سائر قوى الإسلام السياسي، أكثر من حركة اعتراضٍ على التاريخ. إنه ليس جزءاً من التاريخ، ولا من مجراه العام. قد لا يرى داعش نفسه، وسائر قوى الإسلام السياسي معتدلة ومتطرفة، كذلك، بل العكس: تظن هذه القوى نفسها حركة تصحيحٍ للتاريخ، سواء بإعادة عقاربه إلى الوراء، أم باستئناف ما انقطع. التاريخ خاطئ.

التاريخ منحرف، وهي تعمل على تصحيحه واستقامته، وعودته إلى السكة التي هجرها القطار. ومها بدا أن لهذه القوى نفوذاً في الواقع العربي (حيث بالكاد تقرأ الناس وتكتب) فهي ليست تاريخيةً، ولا تمكث في التاريخ، إن تمكَّنت، إلا قليلاً، لأنها تصدر من فكرة الحقيقة المطلقة التي يمثله فهمها للدين، لا من السياسة باعتبارها توسّطاً بين الناس، وليست سوساً لهم بتفويضٍ ما فوق إنساني.

وبهذا المعنى، يصعب، إن لم يستحل، التوافق بين الدين والسياسة، لأن من طبع الأول الثبات، ومن طبع الثانية التغير والتبدل. لاحظوا معي أن تنظيم داعش، عندما أعلن “خلافته”، في العراق وسورية، لم يجد أمامه سوى اسم الدولة لكي يتمسّح به. ليس مصادفةً أنه سمَّى نفسه “دولة”، فليس هناك، اليوم، غير الدولة شكلاً للحكم. انتخب تنظيم داعش “خليفةً”، غير أنه سمَّى خلافته دولة. ربما لأن هذه التسمية تُضمر، في وعي الناس ولا وعيهم كذلك، علاقةً بالقانون، وبالتعاقد الذي يتعالى على الأيديولوجيا. والدولة، في اللسان العربي تشير، في ما تشير، إلى التداول، أو ما عبَّر عنه القاموس المحيط “انقلاب الزمان”، أي تغيره وتبدله من حالٍ إلى حال بين الناس، فليس الزمان (أي التاريخ) حكراً على فئة، أو قوم، بعينهم، ليمكث أبد الدهر بينهم.

تمكَّن تنظيم داعش، مثلما تمكَّن بعض قوى الإسلام السياسي، من بسط نفوذٍ على الأرض، عنوةً مرةً وطوعاً واختياراً مرةً أخرى، غير أن كلّ هذا جرى في حالة من التباس التاريخ على نفسه، أو في حالة من “الدهلزة” على التاريخ، إذ ما إن تمكّنوا من الواقع، قليلاً، حتى راحوا يخوضون في سياقه ومجراه العاميْن، خالعين عنهم ما يحول دون انخراطهم في العصر. لدينا أمثلةٌ عديدة على بقاء مسوح الدعاوى وزوال جوهرها.

فما هو الديني في جوهر النظامين السعودي والإيراني؟ لا شيء إلا اللفظ. فهما منخرطان بقوةٍ في كل ما هو غير ديني، خصوصاً في المجال الاقتصادي العالمي الذي يحكمه التعامل المالي “الربوي”. الديني ليس في قطع يد سارقٍ مسكين، ولا في إعدام عامل مهاجر غلبان، بل في جعل الدين دستوراً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وهذا لم يحدث.

المصدر : العربي الجديد 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى