مقالات

نداء الدندشي – إنهم يعيدون إنتاج الأسد

وسط الكمون في التحرّكات الدبلوماسية التي كانت نشطةً حتى فترة قريبة. لكن، من دون نتائج تذكر، ظهر خبر جديد. ولكن، متراجعاً خطواتٍ عن دائرة اهتمام الإعلام العالمي، أمام ما شهده العالم في الأيام القليلة الماضية من أحداثٍ ساخنة. أهمية ما ورد يعيد إلى الواجهة مسألةً على غاية من الأهمية، هو حجم التناقض في المواقف بين ما يتم الإعلان عنه وما يجري على مسرح الواقع من أحداثٍ تستدعي التأمل في جملةٍ من التناقضات يرفضها العقل، لكنها تبدو مقبولةً، ويتم التعامل معها، تحت مسمى بارز “العمل على إيجاد حلٍّ للأزمة السورية”.

وهذا عنوانٌ أصبح باهتاً لكثرة تداوله، لكنه يعكس، بوضوحٍ كبير، عدم تراجع القوى الكبرى في العالم عن موقفها الذي ما فتئ يتجاهل جذر المشكلة السورية، وضرورة العمل على إيجاد حلٍّ لها، فهذه الأزمة التي تم من خلالها إطلاق يد إيران في العالم العربي أصبحت ما يمكن تسميته نهر الذهب الذي تدفق على الدول المتقدمة، عبر صفقات تسلحٍ غير مسبوقة تصبّ، في النهاية، في سلة إنعاش اقتصاد هذه الدول. وجرى معها تحييد مدروسٌ لمسألةٍ أخلاقيةٍ في غاية الأهمية، وهي كمية الدماء التي تمت إراقتها في سورية، لتحقيق هذا الإنجاز المبهر.

تتحدث الأنباء حالياً عن اتفاقٍ عقد بين الشريكين، وزيري الخارجية الأميركي والروسي، جون كيري وسيرجي لافروف، ما طفا على السطح منه، وتم الإعلان عنه، هو هدنة تشمل كل الأراضي السورية. وكغيرها من الهدن السابقة التي أثبتت الوقائع أنها تفرض على طرف دون غيره، دشنت بأكثر من ستين ضحية، غالبيتهم مدنيون، بينهم أطفال، سقطوا في كل من حلب وإدلب وبلدة الأتارب أيضا. العنوان الكبير لهذا القتل هو محاربة جبهة النصرة، باعتبارها المقصودة بالحرب، وإضعاف “داعش” وفق تصريحاتٍ وردت سابقا من البيت الأبيض.

يحق، الآن، لروسيا أن تعلن للملأ انتصارها الساحق بجرّ أميركا لتكون شريكاً لا يُضاهى بالقتال ضد هذا الفصيل. من المهم، هنا، أن نعيد إلى ذاكرة العالم أن الشعب السوري هو من رفض وجود هذا الفصيل على أرضه، وقاد الحراك المدني في الشمال السوري مظاهراتٍ ضده، كلفته ضحايا عديدين. لكن، لمَ دمرت المستشفيات التي تعالج المصابين من ضحايا الضربات الجوية، غالبيتهم من المدنيين، وأسواق الخضار التي يتجمّع فيها الناس، لتأمين حاجاتهم الغذائية، وأفران الخبز أيضاً، بين الأهداف المهمة لغارات الطيران الروسي التي عملت مع طائرات النظام بها فتكاً وتدميراً؟ هل تملك وزارة الخارجية الأميريكية جواباً على هذا؟ في العودة قليلاً إلى الوراء، نجد أن الطائرات الأميركية استبقت عمل سلاح الجو الروسي في سورية بأيام معدودة، وقصفت مستشفىً في أفغانستان. حدثٌ صرّح الساسة الأميركيون إنه غير مدرجٍ ضمن واجبات الاعتذار، كونه يخدم هدفاً عسكرياً مشروعاً. قد يبدو الربط بين الحدثين، للوهلة الأولى، بعيداً عن المنطق، لكن عدم إدانة هذه العمليات يدفع التساؤل نحو الواجهة.

يكفي، إذن، أن يتكلم كبار الساسة، ليصبح الإخلال ببنود اتفاقيات لاهاي واتفاقات جنيف عملاً مشروعاً، لا يمكن تصنيفه ضمن جرائم الحرب.

إن صح اتفاق الشريكين، الروسي والأميركي، فهذا يعني أن الدبلوماسية الروسية نجحت بتجنيب ساستها المساءلة لاحقاً، بشأن ما اقترفته قواتها وطائراتها في سورية. وهذا يعني، أيضاً، أن الدبلوماسية الأميركية، على عادتها، سجلت حلقةً جديدةً في مسلسل تنازلاتها الكبرى، خلال هذا العهد من تاريخها. قد يبدو فهم الأمر على هذا النحو مربكاً للمتابع العادي، لكن الشعب السوري لا بد أن يدرك أن ما يعدّ له أكبر بكثير من مسألة عودة المفاوضات، وتمييع أهميتها، فالتاريخ ليس بعيداً إلى درجةٍ يصعب من خلاله فهم ما يجري.

أيام معدودة تفصل تاريخ زيارة وفد البرلمان الأوروبي دمشق ولقاء رجل التنازلات الكبرى في الكرملين. ولا دهشة في الإعلان أنه لا أنباء تقدّم للصحافة عن الزيارتين. الأهمية إنما في علاقة الذاكرة السورية بتاريخ الغرب مع الشعب السوري الذي سبق أن عاش تجربةً مماثلةً تقريباً، إثر مجازر الأسد الأب في جسر الشغور وحلب وسجن تدمر، والأكثر شهرة وإيلاماً للأخلاق مجازر مدينة حماة، ثم إعادة الحكومات العالمية إنتاجه ثانيةً، وتقديمه بطلاً قومياً لا يضاهى، متجاهلين الآلام الكثيرة التي تحمّلها الشعب السوري بكبرياء وأنفة.

توضح التحركات الدبلوماسية أن روسيا لا تمسك فقط بزمام الأمور، فيما يتعلق بالأزمة السورية، بل إنها فازت بتمرير كل خططها في سورية. وبالتأكيد، وفق أجندتها الخاصة ومشروعها الذي لم تقبل التنازل عن أي بندٍ فيه، بينما تتبع بقية الدول العالم أجندة البيت الأبيض وخارجيته التي لم تعد تتقن من فنون التفاوض سوى تقديم التنازلات، في إعلانٍ لا يقبل الجدل، يشير إلى أنها، كدولة قوية، وصلت إلى حالة تهتكٍ داخلي، لا يمكن التكهن بحجمه، ولا بنتائجه، على المدى المنظور. وتضاف إليها الدول التي تمسك حالياً بمصير الشعب السوري، ومستقبله الغامض. بدأت هذه الدول الانقياد للرغبات الروسية، وتقديم التنازلات المتعلقة بمصير الشعب السوري الذي سلبته الدول الصديقة، قبل العدوة، حقوقه كافة.

التنازل الكبير قادمٌ لا محالة، فالعالم الذي وقف يتفرّج على دم الشعب السوري، وهو يسفح على الطرقات والأرصفة، من بداية الحراك السلمي، من دون أن يرمش له جفن، أو تختلج لديه، ولو ذرة واحدة من المشاعر، يبدو وكأنه يتحضّر من جديد، ويعمل في الخفاء لبلوغ لحظة إعادة إنتاج الأسد الابن، ثم تقديمه من جديد بطلاً لم يسبقه إلى فعلته أحد، في التاريخيْن، القديم والحديث.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى