منذ الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت أكثر من 17 عاماً، أصبح من الواضح أن الحرب لم تعد مسألةً محلية. إيقاد نار الحرب مسألة خاصة بالتأكيد، فهي تبدأ بين طرفين، أو أكثر، يعتقد أحدهم أن لديه ما يكفي من القوة لسحق الآخر، وفرض مطالبه أو رؤيته عليه، أو إخضاعه لإرادته. لكن منذ اللحظة التي يشعل فيها أول ثقاب، تخرج الحرب من سيطرته، وتدخل في ديناميكيات جديدة تحرّكها الانقسامات والنزاعات والتوترات الطويلة القائمة في محيطه، والتي تنتظر مناسبةً لتفصح عن نفسها، وتقفز على بؤر الحرب المشتعلة لتضع حطبها فيها، وتجيّر نتائجها لمصلحتها.
ولذلك، عندما بدأت بعض الأصوات تخرج من صفوف بعض الثوار، بعد أشهر طويلة من المكابدة، مناديةً بأنه لا يمكن الاستمرار في المظاهرات السلمية من دون سلاحٍ يردع العصابات المسلحة التي أطلقها النظام لمهاجمتها، وقتل عشرات من الناشطين بدم بارد، كنت أقول للناشطين: لا تستعجلوا حمل السلاح، وإدخال الثورة في مرحلة مسلحة، فلن يخفف اللجوء إلى السلاح من معاناة الشعب والثوار، ولن يحل المصاعب المتزايدة التي تواجهها الثورة. فهو، أولاً، خيار النظام الذي يريد أن ينقل الصراع إلى الميدان الذي يعتقد أن لديه التفوق الساحق فيه. وهو، ثانياً، لن يقلل من عدد الشهداء والضحايا بين الثوار، وإنما سيزيدهم لأن النظام سوف يعتبر أن من حقه، بعد ذلك، استخدام كل أنواع الأسلحة التي في حوزته، وهي لا يستهان بها. وثالثاً، لن يقصر أمد الصراع، وإنما سيطيله، إذ متى ما دخلنا النزاع المسلح، لن يكون هناك سبيل لوقف الصراع، إلا بحسم لمصلحة أحد الطرفين. ومع وجود ترسانةٍ لا تنفد من السلاح عند النظام، سوف ندخل في نفقٍ لا نعرف نهايته. ورابعاً، سوف يعمل الدخول في الحرب على تضييق هامش استقلالنا، وربما ارتهان قرارنا الوطني لتلك الدول والقوى التي سنعتمد عليها، من أجل مدّنا بالمال والسلاح اللذين من دونهما لن نستطيع الاستمرار في الحرب.
وخامساً، ستسحب منا الحرب بأسرع مما نتصور ورقتنا الرابحة الرئيسية، فبمجرد دخولنا في منطق السلاح نكون قد حكمنا على الشعب وملايين السوريين بأن يخرجوا من دائرة الصراع، ورهنّا معركتنا بفصائل مقاتلةٍ، لا سيطرة لنا عليها، ولا نعرف من يمكن أن يتحكّم بها فكرياً وسياسياً، في الوقت الذي تشكل فيه المظاهرات المليونية، بهتافاتها المدوية وأهازيجها وشعاراتها، قوتنا الاستثنائية، بل هي التجسيد الحي للثورة ذاتها، بوصفها حدثاً خارقاً للعادة، وخارجاً عن منطق التطور العادي للأمور، وبانياً لميزان قوى جديد، يقزّم النظام، ويقيده ويفرغ وجوده السياسي نفسه من معناه. فليس هناك شك في أن هذه المظاهرات الحاشدة هي التي أفقدت النظام صوابه، وأظهرت حقيقته، وبؤس خياراته القمعية وكذبه على العالم. ولم يعد له هم آخر سوى وقفها مهما كان الثمن ليظهر أنه لا يزال مسيطراً على الوضع. وما من شك أيضاً، وهذه كانت نتيجةً سادسةً لم تخطر على ذهني في تلك الساعة، أن دخول الثورة في مرحلة الكفاح المسلح قد أدى إلى تغييراتٍ عميقة في قاعدتها الاجتماعية، وثقافة المشاركين فيها، وشعاراتهم وأهدافهم، فغلبت الشعارات الدينية والأبعاد الطائفية، وربما مشاعر الضغينة والانتقام على مشاعر الوطنية الجامعة، وتطلعات التحرّر والانعتاق.
رثاء الثورة السلمية
لم يكن لدي أي وهم في أن الأوضاع كانت متجهةً نحو النزاع المسلح. كان في ذهني هدفان من تخفيف الرهان والتسابق على السلاح. الأول، تمديد زمن الثورة السلمية وتظاهراتها الحاشدة لأطول فترةٍ ممكنةٍ، كي تترسخ حقيقتها الشعبية من جهة، وينصهر فيها، في لحظة انعتاق استثنائية، جميع السوريين، على مختلف أصولهم وانتماءاتهم ومذاهبهم ومناطقهم، قبل أن يستبد بالمسرح السلاح، وتتحوّل الثورة، في نظر الرأي العام، الشعبي والدولي، إلى حربٍ أهلية. والثاني، أن نعطي للمجتمع الدولي الذي كان يظهر التفاعل مع الثورة الشعبية الوقت، لتكثيف ضغطه على النظام، وترتيب تدخله لحماية المدنيين، قبل أن تفقد الثورة إشعاعها وصورتها الأسطورية وشرعية قضيتها، بوصفها ثورة شعبٍ مضطهد في مواجهة أكثر النظم عتوّاً وطغياناً واستعداداً للقتل والدمار، وتصبح صراعاً تقليدياً بين نظام ومعارضة، كما أصبحت اليوم.
ببطولاتهم وبسالتهم وتضحياتهم غير المسبوقة، نجح الثوار في كسر إرادة النظام الاستبدادي، وتمريغ وجهه بالوحل، وحل المذابح الجماعية التي أصبحت رديفةً لاسمه، ووحل الاحتماء بالتدخلات الأجنبية التي كان يتهم خصومه باطلاً بالمراهنة عليها، ووحل الاستسلام للمشاريع الطائفية والاستعمارية والتقسيمية التي أصبح أول مطلقيها وصانعيها. ولم يعد للنظام اليوم، لا في صفوف السوريين، ولا في الأوساط الدولية، بما في ذلك الأطراف التي احتمى بها، أي صدقية أو قيمة أو اعتبار. وهم إذ يعملون المستحيل، لإيقافه على قدميه والحفاظ على ما تبقى له من مظهر الدولة النافقة، فذلك لاستخدامها قناعاً، واستخدام رئيسها نفسه، والشرعية الاسمية التي ورثها، أداةً لتحقيق مآربهم وأهدافهم الخاصة والأنانية.
لكن، في المقابل، بعد ست سنوات من الحرب الشاملة التي لم يترك الأسد سلاحاً لم يستخدمه لقتل السوريين وترويعهم، وتدمير مدنهم وبلداتهم وقراهم، بهدف تشريدهم وإفراغ البلاد من ساكنيها، يجد السوريون أنفسهم على جميع الجبهات مستنزفين بشرياً، لعظم ما فقدوه من أبنائهم وفلذات أكبادهم، حتى لتكاد سورية تفقد جيلين من الأعمار التي تراهن الدول عادةً عليها، لإحداث الثورات التقنية والعلمية والاقتصادية الاجتماعية، بين 20 و45 سنة. وبعد أن كان كثيرون منهم يراهنون على أشهر للخلاص، والتوصل إلى حلّ أو سقوط النظام، ها نحن اليوم في السنة السادسة للحرب، وليس هناك بعد أي بارقة أمل في أن تكون السابعة سنة خلاص وسلام. وإذا كانت هناك “نبوءة” أثبتت تحققها بالكامل، فهي تلك المتعلقة بارتهان السوريين إلى القوى الأجنبية. كنت أعتقد أن التبعية للداعمين بالمال والسلاح سوف تقتصر على نشطاء الثورة السلميين، والذين لا يملكون لمواجهة نظام مدجج بالسلاح، أكثر من أصواتهم وأياديهم وأعلامهم المصبوغة بالدم. لكنه انطبق أيضاً، وبشكل أكبر، على النظام الذي اضطر، في النهاية، إلى رهن البلاد بأكملها عند المضاربين الإقليميين والدوليين. وأخيراً، يكاد حلم سورية الديمقراطية الحرة يغيب، ومعه اسم سورية ذاته، أمام ضجيج شعارات الطائفية وأصوات الانتقام السنية والشيعية والعلوية، ونداءات الهويات القومية العربية والكردية والتركمانية والأشورية والسريانية، وغيرها.
حرب الاستنزاف الدائمة
ليس هذا هو الوقت المناسب لمراجعة قرار اللجوء إلى السلاح من عدمه، لأن قرار الحرب كان، من دون أدنى ريب، قرار النظام، ومن أجله لم يترك وسيلةً للاستفزاز وإذلال الناشطين وإهانة الرأي العام وتعبئة مشاعر الطائفية إلا استخدمها، وفي مقدمها أفلام الفيديو التي بثها قصداً، وفيها يستعرض أمام الرأي العام السوري كله شراسة أساليبه في التعذيب وخرق المحارم والمقدّسات، وانتهاك الأعراض في سبيل دفع الناشطين حتماً إلى الاختيار بين الانسحاب وحمل السلاح. وعلى الأغلب، لم يكن النظام ليتردّد في إعدام كل الذين شاركوا في الثورة والمسيرات والتظاهرات، لو وقعوا بين أيدي رجاله الأمنيين، ولعل الخوف من هذا المصير هو الذي دفع كثيرين منهم إلى الانخراط في الفصائل المسلحة، وتحرير المناطق التي تحولت إلى حماية لهم من انتقام النظام، قبل أن يأتي الوباء الداعشي الأسود، لينتزعها منهم. فلم يكن هناك في الأصل أي خيار.
والواقع، كما يثبت التاريخ، لم يتخذ أي طرفٍ محسوبٍ على الثورة قرار اللجوء إلى السلاح، وما حصل في ما بعد جاء على سبيل رد الفعل على توحش نظامٍ لم يعد يتورّع عن ارتكاب أي عمل، بما في ذلك أعمال الاغتصاب والإذلال والتمثيل بالجثامين، ونشر صورها لردع الشعب عن الاستمرار في تظاهراته السلمية، والإعلان بأسرع ما يستطيع إلى الرأي العام الدولي أن الثورة لم تكن، وأن سيطرته على الوضع لم تمسّ. خيار الحرب الشاملة وحرق البشر والبلاد لم يكن سوى الاستراتيجية السياسية والعسكرية التي اعتقد النظام أنها الوحيدة التي تمكّنه من تصفية الثورة، وتشتيت الناشطين وتدمير حاضنتهم الشعبية، وتهجير القسم الأكبر منها، ودفعهم إلى الدخول في مساراتٍ بعيدةٍ كلياً عن مسارات الثورة الأصلية، وما كانت ترمي إليه. وقد تحقق له ذلك، بمقدار ما أدى العنف غير المسبوق، وغير المشروع الذي استخدمه ضد مدنيين مجردين من أي سلاح سوى أصواتهم، إلى انشقاق الضباط والعسكريين، وهو ما فتح باب تشكيل التنظيمات العسكرية، وشرعن العنف المضاد، وشجع شباب الأحياء والقرى على بيع مجوهرات نسائهم للحصول على السلاح، للدفاع عن أنفسهم او التضامن مع أخوانهم، في رد عنف النظام المستشرس عنهم.
لا ينفصل خيار الحرب هذا عن موقف النظام السياسي، بل هو الجواب المنطقي لرفضه التفاوض على أي جزءٍ من سلطاته المطلقة، واعتقاده الراسخ والدائم بأن مجرّد القبول بالحوار يعني الاعتراف بشرعية الاحتجاج، أي أيضاً بحق الشعب فيه، وبالتالي، بالشعب نفسه طرفاً وشريكاً ومحاوراً وصاحب إرادة وخيار. وهذا يعني القضاء على شرعية الاستبداد المطلق، وانهيار صرحه من أساسه. فهو لم يقم ولم يستمر إلا على نفي وجود الشعب طرفاً مستقلاً وفاعلاً وصاحب قرار، وتجريده من كل حقوقه السياسية والسيادية، وإحلال نفسه محله. وهذا ما بيّنه تغييب نائب رئيس الجمهورية، فاروق الشرع، بعد دعوته إلى جلسة حوار يتيمة مع المعارضة في أحد فنادق دمشق.
كانت الحرب الرد الطبيعي من نظامٍ قام على أنقاض الشعب السياسي، ولا يخاف شيئاً أكثر من عودته إلى الحياة. ولم يدخل النظام الحرب، ويقبل اللجوء إلى كل الأسلحة المحرّمة لكسر إرادة السوريين، ولا يتردّد في الانقياد لأجندات الداعمين الخارجيين، والتحالف معهم ضد شعبه، إلا لأنه كان على ثقةٍ بأنه سيربح الحرب، وسيكبد الشعب الذي خرج عليه أو فكّر بالتخلي عنه الثمن الأغلى والأكثر دموية. ولا يوجد شك في أن نظام الأسد كان، قبل ثورات الربيع العربي، وبشكل أكبر بعد انطلاقها، قد وضع الخطة الكاملة لسحق أي حركة احتجاجٍ شعبيةٍ سورية، وأن في صميم هذه الخطة الاستخدام اللامحدود وغير المقيّد للعنف، وهذا ما أوصله في 21 أغسطس/ آب عام 2013 إلى استخدام السلاح الكيماوي رسالةً للسوريين، المصرّين على خروجه من السلطة، على مدى استعداده للتطرف في العنف والذهاب به إلى أقصى ما يمكن أن يكون.
ماذا بعد فشل الحلول الدولية؟
لم تخدم الحرب أحداً، لكنها قضت على سورية، وجزء عزيز وكبير من السوريين، ممن استشهدوا أو تعوقوا أو شرّدوا وفقدوا أغلى ما لديهم. واستمرارها لن يقود إلى أي حسم، كما يعتقد النظام، وبعض أطراف المعارضة أيضاً.
ولكن فقط إلى مزيد من الخسائر التي شهدناها حتى الآن: البشر والوقت والسيادة والانقسام والتذرّر والانشقاق الداخلي. وعلى الرغم من الدعم غير المسبوق الذي حظي به النظام من إيران ومليشياتها الطائفية، ثم من روسيا، والتشويش الهائل على شعارات الثورة ومسارها من القوى الظلامية التي أطلقها، من “داعش” وغيرها، والحروب الموازية التي رعاها لمحاصرة الثورة الشعبية، بالتنسيق مع حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، على الرغم من ذلك كله، يدرك النظام السوري، اليوم، أنه فقد أي أمل بحسم الحرب لمصلحته، وأنه هو نفسه لم يعد يمثل شيئاً للسوريين، سوى راية الحرب المرفوعة مهما كان الثمن، وواجهة تخفي وراءها الدول الأجنبية مفاوضاتها السرية والعلنية لاقتسام مناطق النفوذ والمصالح على جثة الشعب السوري، وعلى حساب دماء أبنائه. وفي أحسن الأحوال، لن يكون مصير النخبة الطائفية التي فجرتها للحفاظ على احتكارها السلطة والدولة والقرار أفضل من مصير النخبة الطائفية المارونية التي خرجت الخاسرة الوحيدة من الحرب الأهلية في لبنان.
حتى وقت قصير، تعلق السوريون الذين أصبحوا، في غالبيتهم الساحقة، ضحيةً للحرب وأسرى لها، بأمل التفاهم الدولي بين موسكو وواشنطن، لفتح ثغرةٍ في جدار الصراع الدامي، وتعبيد الطريق نحو مفاوضاتٍ تفضي إلى حل سياسي يوقف الحرب، ويبدأ الخطوات الأولى نحو عودة السوريين المشردين إلى بلادهم، واستعادة الحياة الطبيعية فيها. لكن، إذا كان هناك طرفٌ دوليٌّ يريد فعلا نهاية الحرب، وتجنب مزيدٍ من أضرارها عليه، فهناك أطرافٌ إقليمية ودولية أكثر لا تزال ترى في استمرار الحرب خدمةً لمصالحها، أو أنها غير مستعدة لوقفها، قبل أن تحصل على ما تنتظره من المشاركة فيها. ويزيد من إضعاف الأمل أن الحرب الدائرة لم تعد تعني سورية، بوصفها رهاناً يتنازع على كسبه الأطراف، وإنما وسيلة لكسب رهاناتٍ أخرى خارجها، وأبعد منها، إقليمية وعالمية. من هنا، ينبغي أن نفهم انهيار مفاوضات جنيف الأولى والثانية والثالثة. وليس من المؤكد أن مصير مفاوضات جنيف الرابعة سوف يكون أفضل من سابقاتها.
لكن، إذا كان من غير الممكن، ولم يعد من المقبول، المراهنة على تفاهم الأطراف الدولية والإقليمية، أو الارتهان لنزاعاتها، هل يمكن في المقابل العودة إلى الرهان على تفاهم بين السوريين؟ في هذه الحالة، ما يطرح على السوريين المعنيين بمصير بلادهم وشعبهم في ما وراء انقسامهم إلى موالاة ومعارضة، ليس سؤالاً من طبيعةٍ علميةٍ وتفسيريةٍ، مثل: هل يمكن الخروج من الحرب؟ وإنما سؤالٌ مركزيٌّ ذو طابع سياسي مباشر: كيف يمكن الخروج من الحرب؟
وماذا ينبغي عليهم أن يفعلوا لوقف مسيرة تفكيك سورية وفرطها أمام أعينهم، وما هي الخطوات والمبادرات والسياسات والخطط التي على الفاعلين اتخاذها أو تطويرها، من أجل المساعدة على وقف نزيف الدم، وتعطيل آلة الدمار التي تكاد تقضي على حضارة سورية بأكملها. ليس هذا السؤال مطروحاً على المثقفين والسياسيين والفاعلين العسكريين فقط، وإنما هو مطروح على سبيل النقاش والاستئناس على كل سوريٍّ، يشعر بأنه معنيّ بمصير بلده، وقادر على أن يحمل قسطاً من المسؤولية في تقرير مصيره ومستقبله، ويستطيع أن يلعب دوراً، ولو صغيراً، في إعادة سورية النازفة إلى الحياة. في انتظار الأجوبة، أودّ أن أعبر عن اقتناعي العميق بأن إنهاء الحرب السورية وحده الذي يفتح الطريق أمام إنهاء حروب الآخرين على سورية وأرضها. العكس غير صحيح.
المصدر : العربي الجديد