مقالات

محمد زاهد جول – لا تغير استراتيجياً بعد التقارب الروسي التركي

إن وجود قواعد عسكرية لحلف الناتو على الأراضي التركية هو تحالف استراتيجي بدأ عام 1952، وهذا التحالف مع الدولة التركية وليس مع أحزابها السياسية، وهذا التحالف تفرضه الجغرافية السياسية لتركيا منذ نشأتها منذ أربعة وتسعين عاما.

إن الجهة الغربية التي تورطت بانقلاب 15 يوليو 2016 ليس حلف الناتو، وإنما مراكز استخباراتية أمريكية استجابت لدعوات تنظيم غولن بتغيير الحكومة التركية والحزب الحاكم في تركيا بالانقلاب العسكري، والانقلاب هو ليس تخليا عن الدولة التركية حتى لو تورط به حلف الناتو، وإنما هو تخل عن الحزب الحاكم وأردوغان، فالانقلاب دليل على تمسك الغرب بتركيا، خوفا على مصالحهم من وجهة نظر غربية خاطئة، لأن مصالحهم مع الشعب التركي وليس مع الأحزاب السياسية، وليست مع التنظيمات السرية.

ومسألة الطيار الذي أسقط الطائرة الروسية غير مستبعد أن يكون من جماعة فتح الله، وتم التنسيق بينه وجماعته مع الاستخبارات الأمريكية، فأمريكا لم تخف موقفها بتشجيع تركيا على إسقاط طائرات روسية تنتهك مجالها الجوي قبل اسقاط الطائرة، ووقفت مع تركيا بإثبات احداثيات الطائرة المسقطة أنها دخلت الأراضي التركية، فأمريكا هي التي كانت تسعى لتوسيع دائرة الخلاف التركي الروسي، بينما الدول الأوروبية رفضت ذلك، بل إن حلف الناتو حذر تركيا من التورط بمثل هذه الحرب، وأعلن أنه لن يدافع عن تركيا اذا دخلت في حرب خاصة مع روسيا لا علاقة لها بالناتو، فالموقف الأوروبي غير الموقف الأمريكي بشأن اسقاط الطائرة، والرغبة الأمريكية متعلقة بتوسيع دائرة معاناة روسيا وتركيا في الأزمة السورية. لا يوجد تفكير تركي للخروج من الناتو، وبناء مؤسسات الجيش التركي تمت بالتعاون مع قيادة الناتو والبنتاغون الأمريكي، ولذلك لم يكن غريبا أن يكون اول مسؤول لتركيا بعد الانقلاب الفاشل رئيس هيئة الأركان الأمريكية ستراتفورد ولقاءاته الرسمية مع رئيس هيئة الأركان التركي خلوصي أكار ووزير الدفاع التركي ورئيس الوزراء التركي يلدرم، ولا بد أن زيارته كانت تحمل تحذيرا بالحفاظ على بنية الجيش التركي في عملية التطهير للجنرالات الذين شاركوا بالانقلاب الفاشل، وان الجيش الأمريكي يتابع بدقة ما تقوم به الدولة التركية في إعادة هيكلة الجيش التركي.

لا بد ان لدى الأتراك الخبرة الكاملة والمعرفة التامة بانه لا يمكن الوثوق بالسياسة الروسية ولا بالاتفاقيات العسكرية مع روسيا، فالاتحاد السوفييتي قبل تحلله تخلى عن جيوش المنظومة الاشتراكية، وهو لم يحسن التعاون معها حتى أيام الحرب الباردة، ومارس عليها قيادة مستبدة وليس شراكة، بينما قيادة حلف الناتو اكثر قدرة على التفاهم مع قيادات الجيوش المتحالفة معها، بما فيها الجيش التركي، وهذا يعني ان الأتراك لن يتخلو عن الناتو لصالح حلف ضعيف مثل التحالف مع الجيش الروسي، ولعل استعمال الأراضي السورية أو الإيرانية في عمليات عسكرية روسية قبل الاعلان عنها إعلاميا، أو من خلال اتفاقيات سياسية بين البلدين هو دليل على ضعف المواقف الروسية في إجراء تحالفات استراتيجية عسكرية مع هذه الدول، بل عجزت روسيا في قيادة تحالف عسكري تشارك فيه القوات العسكرية العراقية، لأن أمريكا رفضت ذلك.

وبالنظر إلى القدرات العسكرية والتفاوت في التقدم التكنولوجي العسكري بين روسيا وامريكا، فإن تركيا لا يمكن أن تفاضل الأسلحة الروسية على الأسلحة الأمريكية المتقدمة، أي ان الجوانب الفنية غير مغرية.

العلاقات الاقتصادية بين روسيا وتركيا بدأت في اواخر الستينيات من القرن الماضي، بدون ان تؤثر على التحالف الاستراتيجي التركي مع أمريكا والناتو، وتوسيع التعاون الاقتصادي بين تركيا وروسيا لا يؤثر بالضرورة على التحالف العسكري مع الغرب الآن أو في المستقبل. والموقف الروسي من الأكراد هو دليل على أنه لا ينبغي لأي دولة او قومية ان تثق بالتحالف مع روسيا، فبوتين كان من السذاجة المضحكة أمام أردوغان في لقائهما الأخير في بطرسبورغ، عندما انكر معرفته بوجود مكتب سياسي لحزب الاتحاد الديمقراطي في موسكو، وتوجه بالسؤال لوزير الخارجية والمستشارين يستفسر عن هذا الأمر ، وكأنه لا يعرف به، ولو لم يكن بوتين رجل مخابرات عريق في المخابرات السوفييتية «الكي جي بي» لأمكن قبول ذلك منه، ولكنه تهرب فاضح عن السؤال الذي وجه إليه من الرئيس أردوغان، وهذا دليل على أن روسيا تتخلى عن معرفة أصدقائها امام مصالحها، وهذا درس لأردوغان ، فقد يتجاهل بوتين معرفته به، عندما تتعارض مصالح روسيا معه.

الأحزاب الكردية تخطئ كثيرا وهي تعتمد على وعود امريكية، وامريكا تستخدمهم لأهداف مرحلية، ولا يملكون ان يكونوا حلفاء استراتيجيين مع أمريكا ولا مع روسيا، ولذلك سرعان ما يتم التخلي عنهم، لأنهم يفتقدون وحدة جغرافية وديموغرافية معاً، فلهم وجود متناثر في شمال سوريا، وهذا لا يؤهلهم لإقامة كيان سياسي بمفردهم، ولذلك هم يراهنون على القوى الدولية روسيا أو امريكا أو أوروبا أو استرضاء اسرائيل لدعمهم، بينما الأرض والجغرافيا ليست لهم، ولا يحق لمن لا يملك الأرض أن يعطيهم هذه الأرض والدولة، فامريكا لا تملك ان تعطي الأكراد دولة كردية شمال سوريا، لأن هذه الأرض ليست لأمريكا، وسوف تتخلى امريكا عن الأحزاب الكردية السورية بعد انتهاء الاستفادة منها.

من الصواب القول بأن روسيا تسعى للتحالف مع تركيا، ولو أدى ذلك إلى اضعاف اعتمادها على إيران أو تحالفها معها، فروسيا تعلم بالعلاقات السرية والعلنية بين إيران وأمريكا، وان إيران تواقة لصداقة متينة مع أمريكا والغرب، ولكنها أي إيران أسيرة أيديولوجيا معادية لأمريكا ولا تستطيع التحرر منها لعقود، وبالأخص ان امريكا لا تبحث عن حلفاء بقدر ما تبحث عمن يخدم مشاريعها. محور التفاهم التركي الإيراني الروسي هو منع تقسيم سوريا، لأن تقسيم سوريا يعني استمرار الحروب فيها إلى عقود مقبلة أولاً، ويعني أيضا حصول امريكا على قواعد عسكرية في شمال سوريا في الأراضي التي تخطط امريكا لجعلها كيانا كرديا ثانيا، وهذا أمر تعارضه تركيا وروسيا، وهي إحدى نقاط اللقاء بين روسيا وتركيا، وإيران لا تريد خسارة نفوذها في سوريا ولبنان، لأسباب أيديولوجية وسياسية واستراتيجية، فنفوذها في لبنان وسوريا يجعل معاركها خارج حدودها أولاً، ويجعل منها دولة ذات نفوذ خارجي ثانياً، وهذا مكسب كبير لها حالياً، ولكنها قد تضطر للتخلي عنه او خسارته كرها لا طوعا، ولكن التفاهم الآخر أكثر صعوبة وهو التفاهم التركي الروسي الاسرائيلي، فتركيا لا تدخل في هذه التحالف حتى لو حقق لها كل مصالحها السياسية والأمنية، لأن الطرف المعني بهذه التحالف في سوريا هم العرب، وتركيا لا تتجاهل هذا الطرف الأساسي، فهو صاحب القضية، وتركيا التي كانت تتجاهل العرب سابقا ليست تركيا اليوم، وأي تعاون وليس تحالفا مع إسرائيل لن يكون على حساب العرب والفلسطينيين أيضاً، فالتعويل على مثل هذا التحالف من غير العرب غير ناجح.

إمكانية نجاح تحالف بين تركيا وروسيا أقوى من تحالف أمريكي ايراني ليس مطلبا تركيا، مع ان ذلك غير واقعي بسبب عجز القيادة الإيرانية عن الدخول في تحالفات مع أمريكا ورفض الأمريكيين ذلك أيضاً، فالبراغماتية الإيرانية مقيدة جدا، وهذا عكس البراغماتية التركية، والبراغماتية التركية تعني قدرة سياسية واسعة على محاورة الأعداء وليس التنازل عن المواقف الأساسية. تحالف الدول دليل على استقلالية الدول وقوتها وقدرتها على اتخاذ زمام أمورها بنفسها ، فتحالف من تشاء وتبتعد عمن تشاء، وتركيا لا تقيم سياستها على تحالفات ضد تحالفات اخرى، وأكبر مثال على ذلك تحالف الخمسة وستين دولة بقيادة أمريكا ضد «داعش»، فتركيا لم تشارك في مشاريعه الحربية في السنة الأولى لأنه لا يأخذ مصالح تركيا بعين الاعتبار ، فالتحالفات التركية مشروطة بتحقيق مصالح تركية، وليس خدمة لأحد، لا روسيا ولا امريكا ولا إسرائيل ولا السعودية ولا غيرها، فالتحالفات تبادل مصالح أولاً، ودرأ مفاسد مشتركة ثانيا، وإلا فلا حاجة للتحالف مع احد، فالصداقة تبادل منافع بين الأصدقاء في العلاقات الدولية.

في المنظور القريب لا إمكانية لإقامة تحالف اسلامي إسلامي، لأن كل الدول الإسلامية ترتبط مع الدول الكبرى في تحالفات خاصة بها، ودليل ذلك عجز السعودية في قيادة تحالف اسلامي في اليمن، فقد هربت من المشاركة فيه علنيا مصر وباكستان ووعدت بتقديم مساعدات للسعودية في حالة تعرض أراضيها للعدوان، لأن مصر ترتبط بمصالح مع روسيا وإيران وأمريكا، وكذلك باكستان، وكلها دول لها مصالح غير المصالح السعودية في هذا التحالف والحرب فيها. والسياسة التركية لا تراهن كثيرا على التحالفات الاستراتيجية مع بعض الدول العربية، لإدراك السياسة التركية أن هذه الدول ليست حرة في سياستها الخارجية، وأن لها ارتباطات وسياسات خاصة، وقد تتراجع عن تحالفاتها بسرعة لأسباب تخصها، فهي دول غير مستقرة أولاً، وتخشى على نفسها من أي مخاطر، ولذلك تفضل شراء أعدائها وليس محاربتهم، وهكذا تنتهي أي تحالفات ولو وصفت بالاستراتيجية مع بعض الدول العربية إذا انتهى موسمها.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى