في معرض تبريره توقيع اتفاق الهدنة في سورية مع روسيا، يقول وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إنه من دون ذلك الاتفاق كان سوريون كثيرون سيذبحون أو يضطرون للفرار من بلادهم، وفي ذلك اعتراف صريح أنه، في القرن الواحد والعشرين، جل ما يستطيعه العالم المتحضر هو إنقاذ من بقي حياً من المذبحة، إلى حين، في مقابل التنازل، ليس عن حقوقهم السياسية والمدنية، والآدمية بالتأكيد، بل وعدم ضمان ألا يجري ذبحهم، بعد أن يتم إطفاء الأضواء عن المذبحة ومغادرة المسرح، وترك العصابة تسرح في العتمة.
هي أكثر من مكافأة يجري تقديمها لنظام الأسد، ومن خلفه مليشيات القتل المذهبية، وداعميه من الروس والإيرانيين، بل يمكن تصنيفها بجدارة بوصفها معادلة جديدة في العلاقات بين الشعوب والكيانات الدولية، مفادها بأنه كلّما قتلت المزيد حصلت على منافع استراتيجية وامتيازات جيوسياسية. المهم أن يكون لديك شعار صلب، وليس مهماً مدى صدقيته، مثل الحرب على المؤامرة أو مساندة الحكومات الشرعية، أو حتى تطبيق قواعد القانون الدولي، وأن تملك الآليات المناسبة لإنجاز هدفك، وإقناع العالم أنك طرف موجود في المعادلة بحكم الأمر الواقع، من أسلحة فتاكة ومرتزقة ومليشيات. حينذاك، يصبح غضّ النظر عن جرائمك، والرضوخ لطلباتك في توسيع النفوذ والسيطرة على الشعوب وإخضاعها، نوع من الذكاء السياسي “براغماتية” وواقعية يحتّمها فهم القاعدة الأم في السياسة بأنها فن الممكن.
لكن، حسناً، ثمّة من يقول، وقوله صحيح، إن الوجدانيات لا تصلح أبداً في قراءة الوقائع السياسية، كما إنها تقصّر في فهم الظواهر السياسية. وفي الحالة السورية، ثمّة معطيات حاكمة هي التي صنعت المخرجات السياسية الممثّلة بالهدنة في شكلها الذي ظهرت عليه موازين القوة ومعادلات الميدان، ما يستدعي إنتاج معادل موضوعي لها، يتمثّل بالرضوخ للأمر الواقع، وتحصيل الممكن والمعبّر عنه هنا بعدم الجلوس في مكان المتفرّج، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح البشر، على ما يذهب كيري أيضاً في سرديته التبريرية.
وثمّة ما يستوجب التساؤل، وباندهاش، عن المتغيّر الذي يمكن أن تحدثه هدنة آنية منزوعة القوة والفعالية، ولا يملك الطرف الآخر فيها، الولايات المتحدة، سوى الأماني في أن تمر بسلام، من دون ربطها بمشروع سياسي يقارب الأزمة الأساسية، وهي استباحة نظامٍ شعب سورية لم يعد نظاماً، بل مجرد تشكيلات مافياوية، ترفده مليشيات ذات لون ووظائف طائفية وأنظمة حكم فاقدة للشرعية في بلادها! في هذه الحالة، ألا يصبح الأمر مجرد إعادة لترتيب مسرح القتال، وترسيم مناطق القتل التي يتطلب توجيه فعاليات تلك القوى إليها، مقابل “الثمن” تقويت المناطق “المربعات” الأخرى، حتى يتم التفرغ لها، بعد انتهاء وظيفة الهدنة الأخيرة، وإنجاز مهمة تصفية الثغر الأكثر مقاومة. أليست تلك عملية تبويب حربية، الهدف منها ترتيب الأولويات القتالية؟
المذهل في صناعة السردية الأميركية عن هذه الهدنة إصرار رواتها على الخيط الملحمي الإنساني المتحقق في هذا النسق “الإنجاز” المعجزة، حيث يذهب أحد مهندسي السياسة الأميركية في سورية (روبرت فورد)، وهو السفير السابق في دمشق، إلى أن “اتفاق الهدنة إذا دام ولم ينفرط عقده سيخفف من المعاناة الإنسانية في سورية”، وهو ما يعتبره “أمراً حسناً”. والواضح أن السياق التبريري للسياسة الأميركية المتهافتة يجري بناؤه على هذه الركيزة الهشة. لكن، ومن دون القصد بالدخول في مساجلةٍ مع هذه التبريرات، سوف تستمر المعاناة الإنسانية في سورية وتزيد، طالما لم يتم تفكيك البنية الأساسية التي تنتج هذه المعاناة، والمتمثلة من دون شك، باستمرار عصابة الأسد في الحكم، وبقاء إيران ومليشياتها على أرض سورية، واستمرار مشاريعها في التطهير والتجريف الطائفي، ذلك أن المعاناة الإنسانية في سورية ستستمر، وإن بأشكال وأساليب أخرى، ليس منها القصف بالبراميل المتفجرة ولا بغاز الكلور.
أما عن المعاناة في سورية فهي حصلت في خمس سنوات، كان كل يوم فيها يمر على الشعب السوري بحجم سنين، وكل إضافة على هذه المعاناة بمثابة الضرب على الجرح الملتهب. وقد دمرت هذه المعاناة نسيج مكونٍ محدّد، يسمى الأكثرية في سورية، حيث جرى عمداً، وعن تصميم وتخطيط واع، تحطيم خريطته الاجتماعية، وإضعاف مرتكزات وجوده، بحيث يسهل إعادة تشكيله والتحكم فيه إلى مدىً بعيد عبر نزع الجزء الفاعل فيه، قتل الشباب وتهجيرهم، وإخفاء الناشطين وقتلهم، وترهيب أصحاب الرأي وإجبارهم على المغادرة عبر تحويل بقائهم في سورية نوعاً من الانتحار المجاني، في مقابل تطويع أصحاب النفوس الضعيفة من رجال الدين والكتبة والمرتبطين في شبكات الفساد واستعمالهم واجهاتٍ لتبرير المذبحة بحق الأكثرية، والقول إن الحرب ليست ذات بعد طائفي.
يتفق اليوم أعداء الأكثرية السورية، المنخرطون ضمن تحالف روسيا وإيران وأميركا، على إجراء هدنةٍ تحقق للطرف الأول مكاسب سياسية، تعزّز مكاسبهم الميدانية التي حققوها بالفوسفور والكيماوي والقتل الطائفي على الهوية. وتعفي الطرف الثاني من التزاماته التي يرتّبها القانون الدولي، بوصفه القوة المفترض أنها حارسةٌ لقيم هذا القانون، ولا عزاء لذوي الشهداء اللهم سوى أنهم، منذ بداية سيرهم على طريق الجلجلة، كانوا يصرخون يا وحدنا، ولا زال صدى صوتهم يتردّد مثل موجاتٍ هائلةٍ في الفضاء، بوصفه الحقيقة الوحيدة في القرن الواحد والعشرين.
المصدر : العربي الجديد