مقالات

عبد الناصر العايد – تأملات وانطباعات عن الدور العسكري التركي في سورية

تحاشت القيادة التركية التدخل عسكرياً ضد داعش في شمال سورية لما يمثله من أخطار، لكنها اختارت القيام بذلك عقب الزلزال السياسي الأمني الداخلي المتمثل بالانقلاب غير المكتمل، جرياً على القاعدة السياسية القائلة إن قرع الطبول لمعركة خارجية، هي أسهل الطرق لفرض التماسك الداخلي، وهو قرار ينطوي مثل أي اجراء اضطراري على أخطار قد تكون أكبر من أخطار عدم الاستقرار التي يرمي إلى مواجهتها.

عسكرياً لم تواجه القوات التركية المندفعة في المناطق الحدودية السورية حتى الآن مقاومة جديّة، فحربها لم تبدأ بعد إذ انسحبت داعش من جرابلس لأسباب تخصها، وربما يكون منها وضع خصومها في مواجهة بعضهم بعضاً، لتنقض على الطرف المناسب في الوقت المناسب، لكنها بالتأكيد ستبقى خطراً وشيكاً ولن تتردد في انزال أقصى الخسائر بالجيش التركي متى أمكنها ذلك، واستعادة سريعة لتاريخ هذا التنظيم في سورية والعراق تكشف لنا اتقان مقاتليه وقادته تكتيكات حرب العصابات، المكلفة جداً للجيوش النظامية الثقيلة، ودروس ذلك تمتد على طول القرن العشرين، من الصين إلى فيتنام فأفغانستان والعراق وسورية. والأمر ذاته ينطبق على مواجهة الوحدات الكرديّة، لكن مع تفصيل إضافي مهم يتمثل في أن هذه الوحدات ستحظى بدعم وافر من خصوم تركيا الإقليميين والدوليين، لتتمكن من إنزال أكبر الخسائر الممكنة بقواتها، بخاصة سلاح المدرعات، حيث بدأت تتبرز نذر حصول قوات YBG على أحدث أنواع الصواريخ المضادة لها، مثل صواريخ التاو التي فتكت بدبابات نظام الأسد، وقد يرقى الدعم إلى مستوى كسر الحظر الأميركي على مضادات الطائرات، وتزويد الأكراد بها، وكلا السلاحين سيمثل معضلة جديدة للجيش التركي ليس في معاركه مع المقاتلين الأكراد في سورية وحسب، بل داخل تركيا.

سياسياً، سيفضي هذا التدخل إلى نشوء ميدان صراع إضافي، خارج الأراضي والسيطرة التركية، ويتضمن عنصرين شديدي الحساسية بالنسبة إلى السلطة الحالية، هما القضية الكردية بكل ارثها وزخمها، ومسألة الموقف من الجهاديين الإسلاميين، حيث لا يخفى تعاطف فئات كبيرة من المتدينين الأتراك معهم، بخاصة في صفوف حزب العدالة والتنمية الإسلامي، وكلا العنصرين اليوم في ذروة تأججهما، وسينتقل لهيبهما في شكل أكبر إلى الساحة التركية مع فتح الباب على المحرقة السورية.

أما من الناحية الجيوسياسية فإن هذا التقدم التركي غير المحمي بغطاء دولي أو اقليمي، سيجعل منه دريئة لسهام القوى الإقليمية الأخرى، فإيران ستستغله لابتزاز انقرة وإجبارها على تقديم تنازلات لنظام الأسد، فإن لم تفعل ستجعل طهران من وجودها غير المعلن في سورية، وجوداً رسمياً وشرعياً على غرار التواجد الروسي، أي بطلب من نظام الأسد وبذريعة محاربة داعش أيضاً، وسيستفيق الأتراك ذات يوم ليجدوا أن جيش ايران، خصمهم الإقليمي الأبرز، يتمركز في حلب وغيرها، مطوقاً تركيا من اقصى الشمال الشرقي إلى أقصى الجنوب الغربي.

ودول الإقليم العربية لن تقبل أن تقتسم سورية بين تركيا وإيران، ولا بد ان يكون لها كلمة مؤثرة، على رغم خفوت صوت النظام السياسي العربي ووهنه.

من الناحية الإستراتيجية ليس ثمة أفق واضح للتدخل التركي، وأنقرة لن تتمكن من تحقيق هدفها الحقيقي بإنهاء مشروع الدولة الكردية من دون أن تستمر في حربها ضد داعش وتطارده بعيداً من الحدود، وهذه مهلكة حقيقية لجيشها، وستسقط ثمارها في حجر خصومها، أما أن تكتفي بمناوشات حول الحدود مع تنظيم داعش، ثم تخوض حرباً ضروساً ضد الأكراد فذلك دونه اعتراض الولايات المتحدة، التي تقول علانية إنها ستمضي في دعم الأكراد إلى النهاية، مادام لا أحد يريد أن ينشر جنوده لمقارعة المتطرفين على الأرض سواهم. أما روسيا فإنها ستطلب تعاوناً وتنازلات تركيّة إذا ما أريد لها أن تبقى صامتة، وقد يكون الثمن لا أقل من الانصياع لرؤيتها في إدارة الشرق الأوسط، وإلا فإنها تستطيع أن تتذرع بسيادة سورية واستقلالها، لإرغام الاتراك على الانسحاب، بالوسائل الديالمخاطر بلوماسية أو العسكرية، مادام التدخل التركي غير محمي بمظلة الناتو.

أما ما يمكن أن يكون تعويلا على «بازار تركي»، تتسابق فيه كل من روسيا والولايات المتحدة على تقديم العروض لتركيا مقابل استمالتها، فهو تفكير رغبوي يتجاهل قواعد اللعبة الدولية التي لا ترحم، فدولة متوسطة مثل تركيا تعامل معاملة الفريسة الجماعية في الأزمات الكبرى مادامت لا تعلن الانحياز و»الاحتماء» الصريح بإحدى القوى الرئيسية، وتركيا بتحالفاتها الحالية ليست في موقع رفع البازار، بل في خانة تقديم التنازلات.

لربما كـــان الأسلم أن تحشــــد أنقرة قواتهــا على الحــــدود، وأن تنظم وتسلح ما تستطيع من عناصر الجيش الحـــر، وتدفع بهم إلى الداخل، وتساندهم جويا ومدفعياً بـــقدر المستطاع، سواء لانتزاع مناطق من سيطرة داعش أو منــع الكيان الكردي من التمدد غرباً، ومع أن هذه «المناوشة» لن تأتي بالحسم، غير الممكن أصلاً، إلا أنها أقل كلفة، وكافية لدفع الأخطار الآنية أو تأجيلها، ريثما تتعافى تركيا من كبوتها الحالية، أو تتغير الظروف والرياح الدولية.

وترتكب المعارضة السورية خطأ كبيراً بالتهليل لهذا التدخل والانخراط فيه، فشرعية ووطنية هذه المعارضة تزول نهائياً مع قبول القتال تحت راية دولة أخرى داخل سورية، وهي تفقد بذلك نقطة التفوق المبدئية على نظام الأسد الذي رهن البلاد لروسيا وإيران مقابل حمايته. كما أن تجنيد تركيا لعدد كبير من مقاتلي الجيش الحر في حربها الخاصة يغير فعلياً جوهر الصراع، وينقله من محاربة نظام الأسد للوصول إلى انتقال سياسي كامل، إلى محاربة ذيول على أطراف هذا الصراع المركزي وتحقيقاً لأهداف طرف آخر، وإذا كانت مقاتلة داعش وYBG أمراً لا مفر منه، إلا أنه ليس أولوية قصوى، تستدعي نقل مقاتلي المعارضة من جبهات حلب المحاصرة وزجهم في معارك استنزاف بعيداً من محور القتال الرئيسي. ناهيك عن خطأ الانصياع الكامل للإرادة التركية، على نحو انصياع النظام ومؤيديه لنزعة الهيمنة الإيرانية، وتجاهل العمق الإستراتيجي العربي، الذي يمثل التحالف معه الاتجاه الإقليمي الصحيح للشعب السوري، على رغم كل الضعف الذي يبدو عليه العرب اليوم.

لا زال لدى تركيا بعض الوقت لتختبر واقعية قرارها، وما زال لدى المعارضة السورية وجيشها الحر الفرصة للتمسك بعقيدتها الوطنية الثورية، ولا يزال أمام المحور العربي الفرصة للتمسك بسورية، كخط دفاع أول للأمن القومي العربي إزاء المهددات الإقليمية الثلاثة: إيران وإسرائيل وتركيا، وهي لا تملك رفاهية السقوط في الاختبار السوري أمام تركيا، كما سقطت في الاختبار العراقي أمام إيران.

المصدر : الحياة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى