غض النظر عما إذا كان انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية صار في متناول اليد أم لا، هناك خطر كبير يتهدّد النظام اللبناني، بل يهدّد لبنان ككيان مستقل ودولة عربية تمتلك تجربة قديمة خاصة بها. هذا الخطر الكبير، المتمثل في فرض رئيس الجمهورية فرضا من قبل “المرشد” المحلي، يتجاوز سعي إيران إلى “المؤتمر التأسيسي” الذي تحدّث عنه في الماضي هذا “المرشد”، وهو الأمين العام لـ”حزب الله” السيّد حسن نصرالله. الهدف من هذا المؤتمر تكريس المثالثة بديلا من المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في لبنان. والمثالثة تعني، بين ما تعنيه، تقسيم لبنان بين الشيعة والسنّة والمسيحيين. هذا يؤدي عمليا إلى تهميش للمسيحيين أكثر ممّا هم عليه من تهميش الآن.
بكلام أوضح، مطلوب تبييض سلاح “حزب الله”، وهو سلاح ميليشيوي ومذهبي بإمرة إيران، كي يصبح سلاحا شرعيا في لبنان عبر إعطاء الطائفة الشيعية الكريمة، أسيرة إيران إلى إشعار آخر، حقّ الحصول على الثلث المعطل في كلّ المجالات.
بكلام أكثر وضوحا، مطلوب أن يكون لبنان مستعمرة إيرانية لا أكثر ولا أقلّ، أي أن يكون الحكم في لبنان شبيها بالحكم في العراق وسوريا. ليس بشّار الأسد سوى بيدق في لعبة تمارسها إيران في سوريا منذ بدأ المرض يتمكن من حافظ الأسد في العام 1998.
إلى ذلك، ليس رئيس الحكومة العراقية، أكان حيدر العبادي، أو سلفه نوري المالكي سوى موظّف إيراني يأخذ تعليماته من الجنرال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني.
يؤكد وجود الخطر الكبير الذي يهدّد النظام اللبناني و”لبنان الكبير” الذي أعلن في العام 1920، أي قبل مئة عام، إلّا أربع سنوات، وجود “مرشد” في لبنان، على غرار “المرشد” في إيران.
هذا “المرشد” في لبنان، الذي يرتبط قراره بـالمرشد” المقيم في طهران، بات يستطيع تسمية رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النوّاب ورئيس مجلس الوزراء وإجبار مجلس النوّاب اللبناني على انتخاب الشخص الذي يسمّيه رئيسا للجمهورية والذي سيكون قادرا على تلبية المطالب الإيرانية من دون أخذ وردّ.
هذا يشير بكلّ بساطة إلى أن علّة وجود لبنان لم تعد موجودة. لم يعد لبنان، ممثلا بنوابه، يلتزم الدستور وروح الحياة الديمقراطية. لم يعد النوّاب ينزلون إلى المجلس لانتخاب رئيس ضمن المهل التي حدّدها الدستور المعمول به وذلك قبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية.
هناك عملية نسف للحياة السياسية في لبنان. الهدف واضح كلّ الوضوح. الهدف جعل البلد مجرّد تابع للمحور الإيراني. الهدف أن تكون بيروت مجرّد مدينة إيرانية على البحر المتوسط لا أكثر.
من السهل الدخول في لعبة إيران. هناك من يعتقد أن لا مجال في الوقت الراهن سوى لانتخاب رئيس للجمهورية بأيّ ثمن كان وذلك من أجل إنقاذ ما بقي من الجمهورية ومؤسساتها. هناك من ينادي بهذا المنطق بعدما عطّل “حزب الله” انتخاب رئيس للجمهورية منذ سنتين ونصف سنة. يرفض الحزب، وهو لواء في “الحرس الثوري” الإيراني أن يمتلك رئيس الجمهورية قرارا خاصا به مستقلا إلى حدّ ما عن القرار الإيراني.
لم يعد مسموحا بأن يكون رئيس الجمهورية اللبنانية رئيسا لدولة عربية مستقلّة. صار عليه أن يكون موظّفا لدى “حزب الله”، كما كان رئيس الجمهورية بين 1998 و2007 موظفا برتبة مدير عام في رئاسة الجمهورية العربية السورية. صارت سوريا، قبل أن يرث بشّار والده في العام 2000 جرما يدور في الفلك الإيراني.
لم يكن بشّار الأسد في أي وقت، وذلك قبل أن يصبح رئيسا، غير جزء لا يتجزّأ من الاستراتيجية الإيرانية. في حين كان والده يسعى إلى إيجاد توازن مع إيران فتستخدمه أحيانا كي تثبت مواقعها في لبنان، ويستخدمها في أحيان كثيرة في لعبة ابتزاز العرب، خصوصا أهل الخليج.
المخيف في الأمر أن لبنان يُدفع من أجل أن يكون في عهدة “المرشد” المحلي الذي يعمل لدى “المرشد” الإقليمي الموجود في طهران. هناك تخلّ عربي عنه وهناك تخلّ أميركي في الوقت ذاته. لم يسبق للبنان أن عانى من مثل هذا التخلي العربي، خصوصا بعدما عملت حكومة “حزب الله” التي شكلّها النائب السنّي نجيب ميقاتي كلّ ما هو مطلوب منها كي يتوقّف العرب عن المجيء إلى لبنان والاستثمار فيه.
من يتذكّر كيف أن الرئيس سعد الحريري دفع ثمن المواجهة المباشرة مع علي خامنئي وكبار المسؤولين الإيرانيين الذين طالبوه عندما زار طهران عام 2010 بإلغاء ضرورة حصول المواطن الإيراني على تأشيرة لزيارة لبنان وتوقيع اتفاق دفاع مشترك بين البلدين وتسهيل دخول إيران النظام المصرفي اللبناني في وقت كانت هناك عقوبات دولية عليها.
كان القرار الأوّل الذي اتخذته حكومة “حزب الله” بعد إسقاط حكومة سعد الحريري إلغاء التأشيرة للإيرانيين. هل من يريد تذكّر مثل هذه الأحداث بين وقت وآخر، أقلّه من أجل فهم ما الذي كانت تريده، وما زالت تريده، إيران من لبنان؟
ليس سرّا أن لبنان لم يعد همّا أميركيا. لم يعد لبنان موجودا بالنسبة إلى إدارة أوباما. كذلك، لم يعد هناك استيعاب عربي لواقع يتمثّل في أن ليس صحيحا أن اللبنانيين لم يواجهوا المشروع الإيراني ولم يقاوموه.
على العكس من ذلك، قاوم اللبنانيون المشروع الإيراني طويلا وذلك منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في شباط – فبراير من العام 2005. قاوموا بعد ذلك الحرب الإسرائيلية التي فرضها “حزب الله”، بطلب من إيران عليهم. كان ذلك في صيف 2006. قاوموا كلّ أشكال القمع التي مارسها “حزب الله”. من الاعتصام الطويل في وسط بيروت من أجل تعطيل الحياة في البلد، وصولا إلى ما هم عليه من بؤس الآن، مرورا بغزوة بيروت والجبل في أيار ـ مايو 2008.
قاوم اللبنانيون في العام 2009 عندما منعوا “حزب الله” وتوابعه من تحقيق انتصار في الانتخابات النيابية. بات عليهم الآن دفع ثمن تلك المقاومة التي تعتبر مقاومة حقيقية عن لبنان المتنوع والعربي المتمسك بثقافة الحياة أوّلا.
هل على لبنان واللبنانيين الاستسلام الآن لـ”المرشد المحلي” وتعليماته بعدما اكتشفوا أن لعبة الانتظار تضرّهم أكثر مما تفيدهم، نظرا إلى أنها تستنزف البلد وقواه الحيّة، وأنّ سوريا نفسها تدفع مع شعبها ثمن إصرار إدارة أوباما على حماية الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني؟
في كلّ الأحوال، هناك لبنانيون مازالوا على استعداد للمقاومة. هؤلاء يعرفون أن الرضوخ لمطالب إيران، هذا إذا كانت تريد بالفعل رئيسا للجمهورية تستخدمه في سياق جهودها من أجل تغيير طبيعة النظام اللبناني، يشكّل خطرا كبيرا على البلد ومستقبله وعلى نمط العلاقات القائم منذ القرن التاسع عشر بين الطوائف اللبنانية.
ليس الرضوخ لخيار “المرشد” المحلي، وبالتالي لـ”المرشد” الإقليمي في طهران، سوى رضوخ لموازين القوى التي تسعى إيران إلى فرضها مع ما يعنيه ذلك من نهاية للنظام القائم، أي نهاية اتفاق الطائف الذي يشكل حجر الزاوية للمناصفة. هل يسقط لبنان نهائيا؟ هل ما نشهده حاليا إعداد للمشهد الأخير، أي للسقوط أمام “المرشد” المحلي، ممثل “المرشد” الإقليمي؟
المصدر : العرب