مقالات

مدى الفاتح – تركيا والعراق: مع من سيقف العرب؟

ما تزال الأزمة السياسية بين العراق وتركيا في تصاعد واحتدام، وهي أزمة نرى أن من التبسيط النظر إليها كمجرد اختلاف سياسي من النوع المعتاد بين دول الإقليم.

رأينا هو أنه سيكون لهذه القضية أبعاد متشابكة تتجاوز حدود البلدين المعنيين إلى ما هو أبعد وأعمق، وأنه سيكون لها كذلك انعكاسات حادة قد تغيّر من نظرة العرب لتحالفاتهم القديمة، كما قد تغيّر خريطة التوازنات والتحالفات الراهنة. للشرح فإن علينا القيام بتحليل أطراف الأزمة الأساسيين وظروفهم السياسية والأمنية. لدينا من جهة العراق الذي لا يمكن حين نذكر اسمه أن نتجاهل العلاقة الخاصة التي تربطه بإيران، والتي تجاوزت مفهوم التحالف البسيط إلى عتبة اندماج حقيقية تتماهى فيها الدولة العراقية مع نظام الولي الفقيه في طهران، بحيث يستحيل الفصل بينهما.

العراق الطائفي بامتياز الذي ترعى طائفيته وتمييزه ضد السنة ليس فقط إيران ولكن أيضاً الولايات المتحدة التي تغض الطرف عن جرائمه، بل تساعده أحياناً في إيجاد مبرر لها تحت غطاء الحرب على الإرهاب. أمنياً، ورغم براعة القوات العراقية والميليشيات المساندة لها في التدمير بمساعدة الجيش الأمريكي فإنه يبدو أن هذا الجيش وتلك القوات المدربة أمريكياً على مكافحة الإرهاب والمزودة بأحدث الأسلحة إضافة للدعم اللصيق من قبل النظام الإيراني، رغم كل ذلك فإن هذه القوات تبدو عاجزة عن إنهاء تنظيم بمعدات، مهما قيل عنها، تظل متواضعة. الحديث الآن عن الموصل والخطة المتكررة تعتمد على ثلاثة محاور أهمها ما سيقوم به طيران التحالف الأمريكي من قصف همجي لتسوية المدينة بالأرض، ومن ثم يأتي دور القوات البرية للتقدم والتنكيل بحثاً عن الإرهابيين المفترضين وهو ما سيؤدي بالضرورة لخروج معظم من تبقى من المدنيين هرباً وفراراً بحياتهم على أمل عودة ستكون في الغالب مستحيلة.

الطرف المقابل هو تركيا التي جعلتها محاولة الانقلاب الفاشلة تعيد النظر في سياساتها الإقليمية لتبدو أكثر شراسة في الدفاع عن مصالحها المباشرة التي تتمثل في تأمين حدودها وعدم التهاون فيما ستعتبر أنه أولوية، كالقضاء على تنظيم «الدولة» الذي يهددها بجدية وإضعاف المجموعات الكردية الانفصالية.

يبدو الخطاب التركي الحالي غير مكترث سوى ما تمليه عليه مصالحه، فقد اتضح للقيادة التركية أن تفاعل من كانت تعتبرهم حلفاءها وأصدقاءها مع ما تعرضت له البلاد من هزة كبرى عبر المحاولة الانقلابية لم يكن على المستوى المطلوب، بل إن بعض أولئك يشتبه في دعمهم، بشكل أو بآخر، لتلك المحاولة. إذا كان هذان هما الطرفان الأساسيان والمباشران للأزمة الحالية، فإن هناك أطرافاً أخرى لا يمكن تجاهلها أهمها إيران لما ذكرناه آنفاً من علاقة تربطها بالعراق مما يوحي بأن لها دوراً ما في تأجيج هذا الخلاف في هذا الوقت بالتحديد.

لكن هناك طرفاً آخر مهماً ورئيساً لا يمكن تجاهله وهو مصر. في اليوم ذاته الذي رد فيه أردوغان بقوة على تصريحات العبادي، كان أحد برامج التوك شو الشهيرة يعلّق على الحدث واصفاً حيدر العبادي بالرئيس العربي المحترم.

لقد تعلمنا خلال السنوات الماضية أن هذه البرامج تعبّر بشكل أو بآخر عن وجهة النظر الرسمية، لذا لم يكن من المستبعد أن تعبّر القاهرة عن المعاني ذاتها، طبعاً باستخدام عبارات أكثر دبلوماسية! في الواقع فإن الأمر لا يحتاج لكثير من الذكاء لمعرفة إلى أي جانب ستقف مصر السيسي التي صوتت لصالح روسيا في اجتماع مجلس الأمن الأخير. هي إحدى الدول القليلة التي تنادي بضرورة الحفاظ على «الدولة السورية» و «الجيش السوري» وهو رأي تتبناه كل من روسيا وإيران ولا يخدم في الواقع إلا بشار الأسد ورموز نظامه.

أما التواصل بين بغداد والقاهرة فقد كان على أشده حتى قبل الأزمة الحالية بين العراق وتركيا. كل ذلك دفع عدداً من المحللين للتعامل مع النظام المصري كجزء من المحور الإيراني الذي يسمى زوراً بمحور «الممانعة» خاصة مع ورود بعض الإشارات عن تقارب مصري إيراني كان آخرها إصرار طهران على مشاركة مصر في اجتماع لوزان جنباً إلى جنب مع رفيقيها العراق وروسيا. تعتمد القيادة المصرية الحالية في سياستها العربية على محورين مهمين هما: ملاحقة التيارات والحركات الإسلامية والتضييق عليها في أي مكان يمكن الوصول إليها فيه، وهو ما يظهر في تعاطيها مع الشأن الليبي ومقارباتها للمسألة الفلسطينية واليمنية وغيرها من قضايا المنطقة. أما المحور الثاني فهو الوقوف ضد أي سياسة تركية رداً على موقف أردوغان بعدم الاعتراف بالنظام الحالي، بل بكل ما تلا الثلاثين من يونيو.

هكذا يبدو الخيار المصري واضحاً وهو خيار ليس من حقنا أن نناقشه أو نتدخل فيه إلا بقدر تأثيره على أمن المنطقة المتشابك الذي لا يسمح لأي دولة بأن تظن أن بإمكانها التصرف بتجاهل وبمنأى عن مصالح جيرانها، فالجميع شاءوا ذلك أو أبوا يجمعهم مركب تحديات واحد. في مداخلة تلفزيونية سخر أحد الكتاب المصريين من تصريحات مندوب السعودية لدى الأمم المتحدة إثر تصويت مصر لصالح روسيا، وهي التصريحات التي قال فيها السفير السعودي إن مصر قد خرجت عن الاجماع العربي.

أقول هنا إن ما فات على الكاتب هو أننا لا نعيش في التاريخ، ولكن في واقع جديد بتحديات وتهديدات لم تعهدها دول المنطقة من قبل فإن العرب، بقياداتهم وشعوبهم، لم يعودوا بتلك البساطة التي كانوا عليها في عقود الخمسينيات والستينيات بحيث تدغدغ مشاعرهم الشعارات القومية الرنانة عن وحدة التاريخ والمصير المشترك فقد حملت السنوات الأخيرة الكثير من الأمثلة التي دلّت بوضوح على أن وحدة اللغة ليست سبباً كافياً لخلق ولاء وطني أو قومي.

لقد استطاعت مصر فعلاً قبل أشهر بنفوذها المعروف على الجامعة العربية أن تدعو المجموعة العربية للخروج بقرار إدانة قوية ضد تركيا لتغولها على الحدود العراقية. جاء ذلك في وقت كانت إيران تشكّل فيه الخطر الأكبر على الأمن العربي إجمالاً والخليجي خاصة، كما جاء ذلك في ذروة الحديث عن تقارب تركي سعودي وخليجي، ما جعل الموقف العربي يبدو ملتبساً، بل أكثر من ملتبس، متناقضاً. اليوم يتكرر المشهد ذاته حيث تقوم السعودية بمبادرة تنسيقية بين دول الخليج وتركيا عبر اجتماع في الرياض، في الوقت ذاته الذي تقود فيه حكومة العبادي تحركات دبلوماسية من أجل حشد الدعم لموقفها ضد ما سمته بالتدخل العسكري التركي في أراضيها.

إن العرب، خاصة السعودية، بحاجة إلى تركيا في هذه المرحلة بالذات، لكن الأخيرة تنتظر بالمقابل قدراً من الدعم لتحركاتها التي تهدف لكسر الاحتكار الإيراني للفضاء العراقي ومنافسة دول التحالف التي تستبيح الحدود العراقية بدون أن يرى أي «ممانع» في ذلك حرجاً. سيكون من المدهش أن تشترك دول الخليج، في الوقت الذي تتحدث فيه عن شراكة استراتيجية مع تركيا، في دعم الدعاية الرسمية للنظام العراقي المبنية على أن تدخل تركيا طائفي وأن أنقرة إنما تريد خلق جيش سني موالٍ لها داخل الموصل.

بين مزدوجين أقول إن المفارقة تكمن في ألا أحد يرى أي بأس في وجود ميليشيات طائفية فعلية على الأرض. ميليشيات يعلن قادتها أن معركتهم المقبلة هي معركة ثأر ضد من قتلوا الحسين عليه السلام. قد يسير العرب خلف «الإجماع العربي» الذي تمثله مصر، وقد تحدث مستجدات تجعلهم يصطفون خلف تركيا من أجل خلق توازن ما مقابل معسكر إيران المرضي عنه غربياً. اصطفاف دونه عقبات أهمها تشتت الأولويات العربية واختلاف وجهات النظر من قضايا المنطقة، هذا غير الثقة التي تحتاج وقتاً حتى تبنى بين الأطراف الخليجية وتركيا.

حتى الآن تبدو أنقرة في منطقة وسطى بين الرياض وطهران، فرغم الخلافات المبدئية مع إيران يسعى الأتراك للظهور بمظهر الرافض للخطابات الطائفية، لدرجة اقتراح الوساطة بين السعودية وإيران كطرف محايد. أما ولادة حلف جديد وحقيقي مع تركيا، وربما لاحقاً باكستان، فإنه سيهدد أول ما يهدد فكرة الجامعة العربية ومبررات وجودها نفسها.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى