مقالات

د. مثنى عبد الله – وماذا بعد استعادة الموصل؟

يتوهم البعض بأن الحديث أو التساؤل عن مستقبل الموصل أمر سابق لأوانه، وأن الكلام يجب أن ينصب على المعركة الجارية لاستعادة المحافظة.

هذا الطرح يشير إلى أنهم يؤمنون بقيمة الأرض لا قيمة الإنسان، ويتناسون أن الجغرافيا من دون بشر لا تساوي شيئا، حتى لو كانت من أغنى بقاع الأرض، وأن الأوطان تقاس بما تضم من مواطنين لأنهم هم القيمة العليا في قيم السماء والارض. ما الفائدة أن يستعيد الحاكم أو السلطات الأرض ولا يستعيدوا الشعب؟ وما هي الجدوى أن تنتصر على أعدائك بينما مازلت تنظر إلى شعبك على أنهم عدوك؟ هذه المعادلة وحدها هي ما دفعت بلدانا شتى أن تتقدم الصفوف، وتصبح من رواد الحضارة الإنسانية، وهي المعادلة نفسها التي حطت من شأن بلدان كثيرة، ووضعتها في ذيل القائمة في كل المجالات. إذن لابد أن نتحدث ونسأل عما بعد استعادة الموصل، لأن ما أوصل الحال فيها على ما هو عليه اليوم هو الخلل في هذه المعادلة. خلل النظرة الصحيحة إلى أهل المحافظة من قبل السلطات الحاكمة، ووضعهم في خانة الأعداء أو الذين لا يمكن الوثوق بهم في أضعف الإيمان. نظرة التمايز الطائفي الذي أقصى وأجتث واعتقل وغيب.

على أرض الموصل اليوم ثلاث قوى خارجية تلعب دورا رئيسيا في المعركة الدائرة فيها الآن، إيران وتركيا والولايات المتحدة الامريكية. تواجد الحكومة العراقية على أرض الواقع لا يمكن اعتباره، بأي حال من الاحوال/ على أنه تواجد مستقل، أو أنه تواجد وطني خالص يمثل الإرادة الشعبية، لانها لا تملك من استقلالية القرار السياسي أي شيء، بل أن صوتها في المعركة مجرد صدى لأصوات الاخرين، دوليين وأقليميين، وأن قواها العسكرية النظامية والميليشياوية هي أذرع لقوى خارجية، بحكم وجود قادة وزعماء سياسيين يدينون بالولاء الاقليمي والدولي لهذا الطرف أو ذاك. الهدف الإيراني من المشاركة بأذرعها في معركة الموصل هو، الوصول إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط. هي حريصة اليوم أكثر من أي وقت مضى على تعبيد طريقها المار إلى ديالى العراقية، ثم الشرقاط في محافظة صلاح الدين، إلى سنجار ثم تلعفر في محافظة كركوك، وصولا إلى ربيعة في الموصل على الحدود العراقية السورية. بعد ذلك يتمدد هذا الطريق بحرية أكبر إلى القامشلي السورية وكوباني وعفرين، ثم حلب وحمص والمناطق المطلة على الساحل السوري للبحر المتوسط.

وتبغي إيران من هذا الطريق أن يكون قوس النار الذي تطوق به العراق والشام، بامتدادات مستقبلية نحو دول الخليج العربي. أما تركيا فإنها تسعى إلى إقامة رأس جسر في الموصل، على غرار رأس الجسر الذي أقامته في شمال سوريا بعملية درع الفرات. خوف تركيا ينصب على أن تقوم إيران من خلال أذرعها الميليشياوية العراقية، بتشكيل حكومة محلية مسيطر عليها بشكل كامل بعد استعادة الموصل، ما يعني زيادة احتماليات التهديد المقبل من حزب العمال الكردستاني التركي على المصالح التركية، خاصة أن هذا الحزب يسيطر بعلم ورغبة الحكومة العراقية على سنجار وربيعة، ولديه علاقات قوية مع زعيم حزب الدعوة نوري المالكي، الذي تتردد أنباء كثيرة عن أن الكثير من عناصره يتقاضون رواتب من الحشد الشعبي على اعتبار أنهم مقاتلون في صفوفه.

كما أن تركيا قامت بتدريب ما يقرب من خمسة الاف مقاتل عراقي من أهل الموصل في معسكر بعشيقة، وهي ترى أن هؤلاء قد تتم تصفيتهم في ما بعد، أسوة بما حصل مع فصائل ما يسمى بالصحوة، التي أنشأها الامريكان لمقاتلة «القاعدة» في العراق. هدف القوة الثالثة المتواجدة في المشهد الموصلي الحالي، وهي الولايات المتحدة الامريكية، هو ما يفرضه وجودها الاعتباري كقوة عالمية متفردة على الساحة الدولية، أي أنها لا يمكن أن تسمح بأن تتآكل صلتها بالعالم وألا تكون متواجدة في أي حدث، كما أنها تسعى من خلال اشتراكها في الحرب في الموصل على هزيمة عدوها تنظيم «الدولة»، وكذلك إبقاء الوضع الموصلي قائما على محورية ثلاثية المناطق العراقية، منطقة كردية، ومحافظات شيعية، وأخرى سنية. أي أنها لن تسمح بأن تتآكل الحدود الطائفية في العراق، لذلك فإن تواجدها يعطيها أوراق ضغط تفرض على الاخرين احترام الوضع الجغرافي الطائفي القائم. وكي لا ننسى فإن الانتصار في الموصل سيعتبر انجازا عسكريا كبيرا قبل الانتخابات الامريكية، سيتم وضعه في رصيد مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون.

قد تكون قيادة معركة الموصل أسهل بكثير من إدارتها في المستقبل، بسبب كثرة اللاعبين الدوليين والإقليميين فيها، والذين لا يمكن أن يتنازلوا عن أهدافهم فيها، لكن يمكن القول بأن مستقبل العراق السياسي يتعلق بهذه المدينة، وبنتائج المعركة الدائرة على أرضها أيضا. فعلاقة الاكراد بالحكومة الاتحادية ستتقرر في ضوء النتائج، كما أن علاقة السُنّة بالنظام السياسي القائم تقررها معركة الموصل أيضا، إضافة إلى علاقة السُنّة بالأكراد. كما أن الأثمان التي يجب أن تُدفع مستقبلا، ستقرر شكل المحافظة وحدودها الإدارية، وصلتها بكل الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي العراقي. فلقد استثمر الايزيديين في مأساتهم التي واجهوها في هذه المحافظة، وهم سوف يطالبون بأن يحصلوا على عوائد هذا الاستثمار، خاصة أن الاكراد يقولون إن الايزيديين أكراد. كما أن المسيحيين هم ايضا يريدون أن يروا مستقبلهم على أرض الواقع في ضوء نتائج المعركة. وإذا ما نظرنا إلى الصورة جيدا، سنجد أن البيشمركه الكردية متواجدة في سنجار وسهل نينوى ومخمور وسد الموصل، وهو يعني استثمارات سياسية وعسكرية مهمة، وأن مطاليبهم ستكون موجودة وبقوة على الطاولة، بعد أن ينقشع غبار المعركة.

قد يكون تقسيم المحافظة إلى محافظات على أسس عرقية ودينية هو الخيار الذي يحبذه البعض. على سبيل المثال، قيام محافظة في سهل نينوى للمسيحيين، وأخرى للايزيديين، وثالثة للشيعة، ورابعة للتركمان السنة، وسيطرة الاكراد على المناطق التي يسمونها متنازعا عليها. الايرانيون يحبذون هذا الوضع، على اعتبار أن ذلك سوف يقلل من سطوة التواجد السني في محافظة كبيرة كالموصل، كما يجب الاخذ بنظر الاعتبار أن الحكومة المحلية المقبلة في الموصل لابد أن تكون لسُنّة المالكي.

يقال إن الحرب سياسة تهدر فيها دماء، وأن السياسة حرب بلا دماء. فهل ستكون الموصل مُقبلة على حرب أخرى لكن بلا دماء غزيرة؟ أم أنها ستواجه حربا جديدة بعد أن ينزلق اللاعبيين الاقليميين إلى المواجهة من جديد، للدفاع عن مصالحهم لكن هذه المرة ليس وجها لوجه، بل بواسطة أذرعهم العراقية وما أكثرها في طول البلاد وعرضها؟ ربما سيكون المشهد المقبل هو سيطرة الاذرع المحلية للقوى الاقليمية على مناطق استراتيجية في الموصل، خاصة النفطية منها، بعد استعادتها من تنظيم الدولة، وهي لعبة خطرة هدفها فرض الامر الواقع.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى