النظام الانتخابي في أمريكا يمنح وزناً أكبر للولايات المحافظة الأصغر حجماً وهذا ما أفاد ترامب.
لا أتفق مع دونالد ترامب في كثير من الأشياء، كلانا نحب مدينة نيويورك، وكلانا نعتقد بأهمية الأكسجين لبقاء الكائنات الحية على قيد الحياة. فيما عدا ذلك، وخاصة في عالم السياسة، لا تنسجم مواقفنا ولا تتفق رؤانا.
إلا أنه بات جلياً لدرجة الإيلام أن واحداً من المزاعم الرئيسية لحملة دونالد ترامب ثبتت صحته بلا ريب: لقد وقع فعلاً تزوير الانتخابات، ولكنها لم تزور في الاتجاه الذي زعمه ترامب وإنما زورت لصالحه وصالح حزبه. وقد حصل ذلك بعدة طرق، منها على سبيل المثال: نزع حق الاقتراع من الناس بدون وجه حق، وقمع الناخبين، وحرمان بورتو ريكو من أن يكون لها أي رأي على الإطلاق. إلا أن إحدى الطرق المهمة والمؤثرة، والتي لم يحسب لها حساب عدد كبير من الأمريكيين قبل هذا الأسبوع هي نظام المجمع الانتخابي.
الحقائق غير قابلة للدحض: يوم الثلاثاء الماضي كانت هناك انتخابات لاختيار رئيس للبلاد، حصل فيها أحد المرشحين على عدد من الأصوات فاق ما حصل عليه المرشح الآخر، إلا أن ذلك المرشح (صاحب الأصوات الأكبر عدداً) هو الذي خسر الانتخابات.
حتى هذه اللحظة تشير النتيجة إلى تفوق هيلاري كلينتون على دونالد ترامب بما يزيد عن مليون صوت، ويتوقع الخبراء أن يرتفع هذا العدد إلى ما يزيد عن مليونين بمجرد الانتهاء من إحصاء جميع أصوات ما يسمى بالغائبين (الذين يقترعون عبر البريد) في ولايات كاليفورنيا وواشنطن ونيويورك، مما سيمنحها نصراً كبيراً تقدر نسبته بواحد ونصف في المائة. وكما سبق وأشير إليه في صحيفة النيويورك تايمز، يمثل هذا الفرق في عدد الأصوات الشعبية نصراً يفوق ذلك الذي فاز به جون إف كينيدي في عام 1960 كما يفوق ذلك الذي فاز به ريتشارد نيكسون في عام 1968.
بالطبع فاز ترامب بالانتخابات لأنه فاز بأكبر عدد من الأصوات الانتخابية، وذلك أن الدستور الأمريكي يخصص لكل ولاية عدداً من الأصوات الانتخابية بناء على العدد الإجمالي لأعضاء الكونغرس الممثلين لكل ولاية. وبناء عليه، فإن ولاية مثل وايومينغ، والممثلة في الكونغرس بعضو واحد في مجلس النواب وعضوين في مجلس الشيوخ لديها ثلاثة أصوات انتخابية بينما كاليفورنيا، التي يمثلها في الكونغرس 53 عضواً في مجلس النواب وعضوان في مجلس الشيوخ لديها 55 صوتاً انتخابياً. في جميع الولايات باستثناء ولايتي نيبراسكا وماين، يحصل المرشح الذي يفوز بالأصوات الشعبية في الولاية على جميع الأصوات الانتخابية. وهذا يعني أن المرشح الذي يفوز بفارق صوت واحد في ولاية ما فإنه يحصل على نفس عدد الأصوات الانتخابية المخصصة للولاية – جميعها على الإطلاق – تماماً مثله مثل المرشح الذي يفوز بفارق ملايين الأصوات.
ولذلك نقول إن الانتخابات جرى تزويرها بمعنى أن الآباء المؤسسين أوجدوا نظاماً من شأنه، في هذه اللحظة من التاريخ، أن يرجح الكفة لصالح المرشحين الذين يتوجهون نحو الولايات الأقل سكاناً ونحو مجموعة صغيرة من الولايات المتأرجحة المتنافس عليها بين الحزبين الرئيسين (والتي لا يضمن أي من الحزبين فيها أغلبية محققة)، على حساب المرشحين الذين يتوجهون نحو الولايات الكبيرة الثرية والمأهولة بكثافة سكانية، والتي لا تدخل ضمن نطاق التنافس.
أولاً فيما يتعلق بالولايات المتأرجحة: من خلال منح جميع الناخبين في الولاية المتأرجحة للمرشح الذي يفوز بتلك الولاية، حتى لو كان ذلك الفوز بفارق عدد ضئيل من الأصوات، فإن النظام يحابي وبشدة المرشح الذي يتوجه نحو تلك الولايات قليلة العدد، وفي هذه الحالة فإن جميع الولايات الأخرى، والتي قد يفوز فيها المرشحون بفارق كبير من عدد الأصوات، تصبح أقل قيمة وأقل تأثيراً.
في هذه الانتخابات، فازت كلينتون ببعض الولايات الأكثر سكاناً في البلاد – مثل نيويورك وكاليفورنيا – وبفارق كبير في الأصوات. كانت تكساس هي أكبر ولاية يفوز بها ترامب، ولكنه فاز بها بفارق ضئيل جداً. بالطبع، ترامب فاز بأهم الولايات المتأرجحة، ولكن حتى في هذه كان هامش فوزه ضيقاً جداً. ولكن بسبب النظام الذي يعطي الفائز كل شيء، شكل تقدم ترامب المحدود في هذه الولايات المتأرجحة وقليلة العدد فرقاً كبيراً بالنسبة له مقارنة بما كان عليه حال كلينتون رغم ما حققته في الولايات غير المتأرجحة من فوز ساحق.
ثانياً، يمكن من خلال عملية حسابية بسيطة إثبات أن النظام الانتخابي يحابي جميع الولايات ذات الكثافة السكانية المنخفضة، وليس فقط الولايات المتأرجحة. بحسب تعداد السكان الأخير (الذي أجري في عام 2010)، يقطن ولاية وايومينغ – وهي أقل الولايات في البلاد سكاناً – ما يزيد قليلاً عن 560 ألف نسمة. يحصل هؤلاء السكان على ثلاثة أصوات انتخابية، أي بمعدل صوت واحد لكل 186 ألف نسمة. بالمقارنة، يعيش في كاليفورنيا، وهي الولاية الأعلى كثافة من حيث تعداد السكان في البلاد، ما يزيد عن 37 مليون نسمة، وهؤلاء يحصلون على 55 صوتاً انتخابياً، أي بمعدل صوت واحد لكل 670 ألف نسمة. لو قارنا بين الحالتين لوجدنا أن سكان ولاية وايومينغ يملكون من القوة داخل المجمع الانتخابي أربعة أضعاف ما يملكه السكان في كاليفورنيا. لو نظرنا إلى الأمر من زاوية أخرى، يمكن أن نقول إنه فيما لو كان نصيب كاليفورنيا من نسبة الأصوات الانتخابية لكل شخص كما هو نصيب وايومينغ لكان مخصصها من الأصوات الانتخابية يقترب من 200.
لو ألقيت نظرة على الخارطة التي ولدها موقع سليت http://www.slate.com/articles/news_and_politics/map_of_the_week/2012/11/presidential_election_a_map_showing_the_vote_power_of_all_50_states.html
والتي تظهر هذا الفرق، ستجد أن الولايات التي تحظى بالقوة الأعظم في المجمع الانتخابي – تلك التي أصوات مواطنيها ذات قيمة أكبر – هي بالمجمل الولايات ذات الكثافة السكانية الأقل وهي في نفس الوقت ولايات محافظة. بالمقابل، ستجد أن الولايات ذات القوة الأقل في المجمع الانتخابي هي الولايات التي تتسم بمزيج من المحافظة والتأرجح والليبرالية في نفس الوقت. من المهم ملاحظة أن من بين الولايات الخمس الأقل قوة (والأكثر سكاناً) هناك ثلاث ولايات يحصل فيها الديمقراطيون باستمرار على أغلبية كاسحة كل أربعة أعوام، وهذه الولايات هي: كاليفورنيا ونيويورك وإلينوي.
ما يعنيه ذلك هو أن النظام الانتخابي الأمريكي صمم بحيث يمنح وزناً أكبر لهذه الولايات الأصغر حجماً والأقل سكاناً والأكثر محافظة. والحقيقة هي أن واحداً من الأسباب التي حفزت واضعي الدستور على إيجاد هذ النظام في المقام الأول هو منح الولايات الصغيرة سلطاناً يخولها التأثير في العملية الانتخابية (ولمساعدة ولايات الرق). ولتوضيح ذلك، فكر للحظة بما يمكن أن تؤول إليه أوضاع الانتخابات لو كان النظام قائماً على أساس من الأصوات الشعبية (أصوات الأفراد الناخبين) وحدها فقط لا غير. لو حصل ذلك لما عبئ أحد بالولايات الصغيرة، ولكان كل الاهتمام منصباً على الولايات الكبرى ذات المدن المأهولة بكثافة.
إذن، لقد اختار واضعو الدستور الأمريكي نظاماً انتخابياً يحابي الولايات الصغيرة ويمنحها سلطاناً يفوق ما تتمتع به الولايات الكبيرة، وهو النظام الذي يحابي الآن الجمهوريين المحافظين ويفضلهم على الديمقراطيين الليبراليين. ولذلك لم تكن مصادفة أبداً أن يكون مرشحا الرئاسة اللذان كسبا الصوت الشعبي ولكن خسرا الصوت الانتخابي خلال هذا القرن هما من الحزب الديمقراطي (المرشح الآخر كان آل غور في انتخابات عام 2000).
ينبغي لنا أن نصف هذا النظام الانتخابي بما هو حقيقة: إنه نظام مزور.
من المثير للاهتمام أن ترامب نفسه أدرك مدى إجحاف المجمع الانتخابي وعبر عن ذلك في سلسلة من التغريدات، حيث وصف النظام الانتخابي بأنه “كارثة على الديمقراطية”، وبأنه “زائف وفضيحة”، وبأنه “يبعث على السخرية”. بالطبع، كان قد غرد بهذه التعليقات عندما اعتقد خاطئاً بأن باراك أوباما كان قد خسر الصوت الشعبي في منافسته مع المرشح ميت رومني. وقبل أن يدرك أن أوباما في الواقع فاز بالتصويت الشعبي وكذلك بالتصويت الانتخابي، قال ترامب أيضاً إنه ينبغي أن تكون هناك “ثورة في هذا البلد”، وأنه ينبغي لنا أن “نقاتل بكل شراسة لوضع حد لهذا الظلم العظيم والمخزي” وأننا ينبغي “ألا نسمح لهذا بأن يحدث” وأننا ينبغي “أن نزحف على واشنطن.”
المضحك فعلاً هو أن ترامب بات الآن يقول شيئاً مختلفاً تماماً، فمنذ أن فاز بالانتخابات، بالرغم من خسارته للصوت الشعبي، غرد مادحاً المجمع الانتخابي معتبراً إياه في غاية العبقرية. ومما قاله في مدحه إنه “يشرك جميع الولايات على حد سواء، بما في ذلك الصغيرة منها، في العملية.” كما أشار محقاً بأنه كان سينظم حملته الانتخابية بشكل مختلف لو كان المعتبر في الانتخابات هو الصوت الشعبي فقط لا غير. لا يوجد ما يبعث على الاعتقاد بأن الولايات الليبرالية الكبيرة كانت ستصوت لصالح ترامب فقط لو أنه ركز جهده فيها. ولكن هناك الكثير مما يبعث على الاعتقاد بأن هامش تفوق كلينتون في الصوت الشعبي كان سيكون أكبر بكثير لو أن كل ناخب في كاليفورنيا ونيويورك كان لديه الحافز للخروج والإدلاء بصوته.
أصل المشكلة هنا هو أن الدستور يضمن لكل ولاية مقعدين في مجلس الشيوخ بغض النظر عن حجمها. ولو أن التمثيل في مجلس الشيوخ كان نسبياً لاختلفت أشياء كثيرة في هذا البلد. إلا أنه ليس كذلك، ولا يقتصر الأمر على أن لدينا مجمع انتخابي منحاز وغير متوازن، ولكن يزيد الطين بلة ذلك النفوذ الذي تحظى به الولايات الريفية الصغيرة داخل الكونغرس، بما لا يتناسب مع حجمها الحقيقي، والذي يترجم عملياً تصويتاً لصالح الجمهوريين، بالطبع.
والخلاصة هي أن دونالد ترامب كان محقاً حينما تكلم وقال إن النظام الانتخابي مزور. لطالما جرت محاولات، ولا تزال تجري، لإصلاح هذا النظام – وقل إن شئت لمنع التزوير الذي ينجم عنه – ولكن من غير المحتمل أن تجدي نفعاً هذه المحاولات خلال المستقبل المنظور (وربما حتى ولا في المستقبل البعيد). لا خيار أمامنا سوى أن نتعايش مع واقع لا يمكن لأحد أن يجادل – أما وقد فاز ترامب بالانتخابات رغم خسارته للصوت الشعبي – في أن نظامه الانتخابي مزور وفي أن التزوير كان بكل وضوح لصالح ترامب.
المصدر : ذي رولينغ ستون