انهار عملياً وقف إطلاق النار الذي أعلن في سورية في أواخر كانون الأول (ديسمبر) الماضي 2016. وهذا ليس مثيراً للدهشة. فلم يصمد أي وقفٍ لإطلاق النار في سورية حتى الآن لوقت كاف لتمهيد الطريق لإجراء محادثات سلام ذات معنى. وهذا ليس لأن المعارضة السورية لم تأخذ عمليات وقف إطلاق النار على محمل الجد، ولكن لأن نظام بشار الأسد وأنصاره أعادوا تعريف عمليات وقف إطلاق النار. في سورية، أصبحت هذه العمليات أداة أخرى من أدوات الحرب. إنها أدوات للوصول إلى مكاسب عسكرية وإعلان مواقف سياسية بالإضافة إلى ألعاب القوة بين الأعداء والحلفاء على السواء.
إن النظر إلى سلسلة عمليات وقف إطلاق النار في سورية خلال السنة الماضية يكشف نمطاً. حيث تمت الموافقة على أول وقف لإطلاق النار في شباط (فبراير) 2016 من الولايات المتحدة وروسيا، وأعلنت «وقف الأعمال العدائية» واعتمدت الاتفاقية سريعاً من الأمم المتحدة. ولكن الاتفاقية استبعدت تنظيم «داعش» و «جبهة النصرة»، واستخدمت روسيا استبعاد هذين التنظيمين لتبرير حملاتها الجوية المستمرة في سورية، قائلة إنها تستهدف مجموعات إرهابية. وواصلت «قوات سورية الديموقراطية» أيضاً سيطرتها على المدن التي كان يسيطر عليها الثوار قرب الحدود التركية، ما أدى بتركيا إلى قصف مواقع «القوات الديموقراطية» في مدينة أعزاز على الحدود السورية. وفي الوقت نفسه، استمر الجيش السوري بتنفيذ هجمات على المناطق التي يسيطر عليها الثوار في محافظة حلب. استمرار هذه النشاطات العسكرية شكل ضغطاً على ممثلي المعارضة السورية الذين كانوا قد وافقوا على المشاركة في محادثات السلام فقط في حال وقف القصف العشوائي ضد المدنيين، والسماح للمساعدات الإنسانية بالوصول إلى المناطق التي يسيطر عليها الثوار، وانتهاء عمليات حصار المدنيين. لم يتم تنفيذ أي من هذه الشروط الثلاثة في شكل كامل، ما أدى إلى تعليق المحادثات.
جرت المحاولة الثانية لوقف إطلاق النار في ايلول (سبتمبر) 2016 وشهدت سيناريو المحاولة الأولى ذاته، ما أدى إلى انهيار سريع للاتفاقية الأميركية – الروسية، بخاصة بعد ضربة جوية أميركية كانت تستهدف تنظيم «داعش» ولكنها، بدلاً من ذلك، قتلت 60 من الجنود السوريين. وبالتالي أعلنت الحكومة السورية انتهاء وقف إطلاق النار رسمياً.
على أرض الواقع، لا تختلف عملية وقف إطلاق النار الأخيرة كثيراً عن غيرها. حيث أنه على رغم إعلان النظام السوري الالتزام ببنود الاتفاق، فقد استمر مع أنصاره في استهداف مناطق الثوار. وأدى هذا بمجموعات الثوار إلى الإعلان في يوم 2 الشهر الجاري تجميد مشاركتها في الأعمال التحضيرية لمحادثات السلام.
إن ما يكشفه النمط أعلاه هو أن النظام السوري وأنصاره حوّلوا عمليات وقف إطلاق النار من أدوات سلام إلى أدوات حرب. واستخدم النظام السوري اليوم وقف إطلاق النار كفرصة للمضي قدماً نحو دمشق، كما كان قد استخدمه من قبل في شباط 2016 لتعزيز حملته في حلب، حين استفاد النظام من وقف نشاط «الجيش السوري الحر» لإجراء تحركات تكتيكية لقواته والتخطيط للحصار والهجمات. وإذا أخذنا ما حدث في حلب كدليل، فمن المرجح أن عملية وقف إطلاق النار الحالية تهدف إلى تمهيد الطريق للنظام لاستعادة منطقة أخرى من مجموعات الثوار.
استخدمت روسيا أيضاً عمليات وقف إطلاق النار لأغراض مماثلة. حيث كانت تصف في شكل انتقائي المجموعات بأنها إرهابية أو غير إرهابية وفقاً لأهداف روسيا الإستراتيجية العسكرية. على سبيل المثال، أصبح «جيش الإسلام»، الذي تم وصفه سابقاً من روسيا مجموعة إرهابية، الآن جزءاً من اتفاقية روسيا لوقف إطلاق النار. ومن ناحية أخرى، تم استبعاد جبهة «فتح الشام» (جبهة «النصرة» سابقاً)، ما قدم لروسيا ذريعة لقصف إدلب، معقل الثوار، بحجة مكافحة الإرهاب.
أصبحت عملية وقف إطلاق النار أيضاً وسيلة لإعلان مواقف سياسية. بينما كان تمّ إعلان أول عمليتين لوقف إطلاق النار في عام 2016 من الولايات المتحدة وروسيا، فقد قادت روسيا وتركيا العملية الأخيرة. ويمكن اعتبار ذلك بمثابة تصريح من روسيا حول الدور الهامشي الذي أصبحت تلعبه الولايات المتحدة في الصراع السوري، وأهمية الدور الذي تقوم به روسيا نفسها. ولكن إذعان تركيا، في الوقت نفسه، يشير إلى تحوّل كبير في موقفها. حيث أنه بعد الشروع في محاولة إسقاط النظام السوري، دفع الضغط الروسي على تركيا، المقترن بالدعم الفاتر من الغرب، إلى تغيير موقفها عملياً ليتقارب مع الموقف الروسي تجاه ما يحدث في سورية، ويبدو أنها تخلت عن أولوية تغيير النظام.
ولكن عمليات وقف إطلاق النار أيضاً وسيلة للعب ألعاب القوة، ليس فقط بين الخصوم ولكن بين الحلفاء أيضاً. أثناء وقف إطلاق النار الأخير، لم يلتزم النظام السوري تعليمات روسيا بالسماح للمساعدات الإنسانية بالوصول الى بعض مناطق الثوار. في عملية وقف إطلاق النار الحالية، يتقدم النظام باتجاه الغوطة الشرقية، وهي منطقة يسيطر عليها «جيش الإسلام» الذي يفترض أنه جزء من اتفاق وقف إطلاق النار. وفي حين أن من غير المعروف حتى الآن ما إذا كان القتال في الغوطة الشرقية مدفوعاً من النظام من دون موافقة روسيا أم هو جزء من تكتيك «الشرطي الجيد والشرطي السيء» بين روسيا والنظام، فقد أصبح من الواضح من سلسلة الإجراءات على أرض الواقع في عملية وقف إطلاق النار هذه والعمليات السابقة أن كلاً من روسيا والنظام السوري أصبح رهينة للآخر. إن روسيا غير قادرة على تسيير الحكومة السورية في شكل كامل، في حين أن الحكومة السورية غير قادرة على تحقيق كامل أهدافها من دون مساندة روسيا.
كل ما يعنيه هذا هو أن عمليات وقف إطلاق النار في سوريا يجب ألاّ تؤخذ على معناها الظاهري. على رغم أن روسيا كانت المحرك الرئيس خلف وقف إطلاق النار الأخير، قائلة إن نجاحه سوف يمهد الطريق أمام محادثات السلام في آستانة، فإن سلوكها وسلوك النظام على أرض الواقع لا يختلفان عن سيناريوات عمليات وقف إطلاق النار السابقة، حيث أنهما ببساطة لم يكونا جادّين تجاه مفاوضات السلام. ومع المكسب الذي عاد على النظام ومؤيديه في حلب، فقد أصبح أقل إقناعاً أنهم سيوقفون اتباع إستراتيجية مماثلة تجاه مناطق أخرى يسيطر عليها الثوار.
بمعنى آخر، أصبحت عمليات وقف إطلاق النار أداة حرب أخرى، ويبدو أن النظام وروسيا يسعيان من خلالها إلى إنهاء الصراع السوري بوسائل عسكرية، وليس سياسية. ولكن حتى إذا حققا ذلك، فإن الفصل التالي في الصراع سيتم تحديده وفقاً لكيفية إدارة النظام وأنصاره لتضارب مصالحهم.
المصدر : الحياة