لم يفشل مؤتمر أستانة. كان مخططا له بألّا يفشل. كان الراعي الأكبر له وهو الاتحاد الروسي على ثقة من توقيت انعقاده، ومن نجاح الأهداف المرسومة له، ومن قدرته على أن يشكل بالنسبة إلى الأطراف السورية خشبة خلاص.
ما لم يُقل علنا هو جوهر القول في أستانة الذي استمع إليه الطرفان المتحاربان صاغرين. لا تهمّ هنا اللغة العدائية التي تحدث بها محمد علوش وبشار الجعفري، فذلك خطاب موجه إلى السوق، حيث تغلب المزايدات على حقيقة البضاعة التي يتمّ تسويقها.
في حقيقتيهما فإن الطرفين لم يكونا في حالة تسمح لهما بالترويج لبضاعة، غير تلك البضاعة اللفظية التي صارت بمثابة جسرهما الوحيد إلى الناس البسطاء الذين ينتظرون لحظة النهاية.
وهو ما لم تكن روسيا معنية به إلا باعتباره الغطاء الذي يخفي أهدافها الحقيقية التي يلخصها تصريح رئيس وفدها في المؤتمر حين قال “سلمنا المعارضة السورية مشروع الدستور السوري الجديد الذي أعدّه الخبراء الروس”. أليس ذلك ما جرى في العراق تماما بعد عام 2003 المشؤوم؟ أميركيو العراق بالأمس هم روس سوريا اليوم.
ولكن لِمَ لم يرفض وفد المعارضة الفكرة من أساسها؟ علوش، الذي كان متشددا في رفضه لاستمرار النظام، قبِل بأن يستلم نسخة الدستور السوري التي كتبها الروس.
وهنا بالضبط تكمن فقرة مهمة من الفقرات التي رغب الروس في إعلانها من خلال أستانة. لقد صار ضروريا أن تواجه المعارضة المسلحة حقيقة حجمها وقوتها وتأثيرها على الأرض في مواجهة عدوّ قبلت بأن يكتب خبراؤه دستور البلد الذي تطمح إلى أن تشارك في حكمه.
المعارضة السورية التي اعترضت على فقرة تنص على علمانية الدولة المستقبلية، تعرف أن أستانة هي فرصتها الأخيرة في البقاء على قيد الحياة، لذلك امتثلت لما فرضه الروس عليها.
أكان لزاما على رئيس الوفد الروسي أن يصرح بما يُحرج الطرفين؟
لقد أعلنت روسيا من خلال ذلك التصريح أنها قد أمسكت بكل المفاتيح في سوريا. ما سمعته المعارضة في أستانة كان النظام قد أنصت إليه في وقت سابق وهو صاغر. فالدولة السورية التي كانت على وشك السقوط كما حدث في العراق يوم غزته القوات الأميركية لم تكن لتقوى على مقاومة قدرها لولا التدخل الروسي.
لقد تعامل الروس مع الرسالة التي أرسلها رعاة المعارضة وهم ليسوا غربيين، بطريقة احترافية حين أثبتوا للمعارضين أن الغرب لم يعد يقف بجانبهم. ولأن أولئك المعارضين باتوا في أضعف حالاتهم، فإن اللجوء إلى منظمات الإغاثة لن يجنبهم كارثة قد تحل بهم في أيّ لحظة إن هم اسْتَعْدوا روسيا عليهم. لقد صار عليهم أن يعترفوا بأن الحل صار روسيا، وهو ما توافق عليه الجهات التي لا تزال ملتزمة بتمويلهم والدفاع عنهم في المحافل الدولية، على الأقل على المستوى الإعلامي.
كانت أستانة بمثابة إعلان عن ولادة سوريا الروسية بإمضاء الطرفين اللذين تحاربا ست سنوات. كل طرف منهما كان يحلم بإزاحة الطرف الآخر لتكون سوريا ملكا له.
لقد كانت أستانة مناسبة لكي يعلن الطرفان عن تخليهما عن حلميهما اللذين أثبتت الوقائع أنهما لم يكونا واقعيين. ولكن هل الواقعي أن يحلّ الحلم الروسي محلّ حلميهما؟
وهو ما يثبت أن السوريين قد أخطأوا في تركيب أحلامهم.
فالعالم لا يملـك وقتـا للأحلام الطويلة. لقد تخلّى العـالم ذات يوم عـن النظام السوري وألقاه في سلة المهملات، ولكنه الآن يلحق معارضة ذلك النظام به، ليواجها مصيرهما. أما مَن لم يفكر في التدخل الروسي فإن عليه أن يراجع حساباته في عالم السياسة.
سوريا أكثر أهمية من جزيرة القرم بالنسبة إلى روسيا. فالقرم روسية أصلا، أما سوريا فإنها نافذة روسيا على العالم.
المصدر : العرب