مقالات

باسل أبو حمدة – نحو قراءة جديدة لقوى المعارضة السورية

جاءت السنوات الست الأولى من عمر الثورة السورية المعاصرة حافلة بالمبادرات والمؤتمرات والائتلافات، في مخاض عسير كان ينقصه ولا يزال شيء من الانفتاح والحوار، بين مجموعة الشخصيات والقوى السياسية المكونة لهذا الحراك الثوري السياسي، التي راحت تتبارز في تشكيل كيانات سياسية قد تكون غير ناضجة، أو تفتقر للخبرة السياسية النضالية المطلوبة في مواجهة النظام الفاشي الحاكم في سوريا وحلفائه.

بل إن بعضها نشأ على أساس المبادرة الفردية، حيث وجدت بعض الشخصيات المتلفحة بعباءة البراغماتية، في التطور الدراماتيكي للأحداث في سوريا ومحيطها والعالم، أرضا خصبة لتحرك بات يشكل في بعض جوانبه حجر عثرة، أمام التوصل إلى صيغة واحدة وموحدة للعمل السياسي الوطني المشترك، الذي لا يختلف عاقلان على أنه الرافعة الوحيدة الكفيلة باستمرار هذه الثورة، بما هي عليه من زخم وصولا إلى غاياتها النهائية، التي لا يشكل إسقاط النظام فيها سوى حلقة واحدة فقط في سلسلة المهام والواجبات المترتبة على عاتق قوى الثورة والمعارضة مجتمعة، وكل قوة وشخصية سياسية وطنية فيها على حدة.

في هذا المشهد الملبد بغيوم الافتقار للرصيد السياسي اللازم، شكلت ضرورات العمل السري أحيانا، ومراوغات البعض وارتباطاتهم الخارجية والداخلية أحيانا أخرى الذريعة السهلة المتاحة للتماهي مع حالة التفرد والإقصاء والتقليل من شأن الآخرين وازدرائهم، حتى لو كان ذلك على حساب بعض مرتكزات الثورة وأهدافها، وتجاوزا لتضحيات السوريين المنخرطين في الثورة بشهدائهم وجراحهم ومعتقليهم ولاجئيهم والملاحقين منهم، بعد أن تراجعت شعارات الثورة الأساسية المطالبة بالحرية والكرامة والتغيير السياسي إلى الخلف، مفسحة الطريق أمام ظهور تكتيكات وآليات عمل مجتزأة من سياقها الوطني العام، لتوضع في بوتقة تكتلات ضيقة لا ترى أبعد من أنف القائمين عليها.

خلف جدار هذه الفوضى الكيانية والتكوينية، راحت تتوارى القوى الفاعلة تاريخيا على الأرض وصاحبة المصلحة الحقيقية بالتغيير، التي تعتبر وقود ثورة كان يصعب حتى وقت قريب تصديق إمكانية اندلاعها بهذا العنفوان، في ظل القبضة الحديدية للنظام الفاشي الحاكم في سوريا، بينما بدأت تظهر كيانات سياسية فتية لا تخلو من المراهقة السياسية، هنا وهناك، كان من شأنها تمييع الخريطة السياسية للقوى الثورية في سوريا، وخلط حابل ضرورات العملية الثورية بنابل المصالح الفردية والفئوية والدينية الضيقة، بحيث بات المواطن السوري أو المراقب للوضع السوري، بحاجة إلى عدسة مكبرة حتى يتبين حقيقية ما يراه من توالد متسارع لتلك الكيانات، التي بات ملحا رفع شعار غربلتها وتقنينها في مجرى العمل الوطني الأصيل، من خلال فتح الباب على مصراعيه للحوار في جو لا وجود للغة الإقصاء فيه.

كما حكمت هذا الحراك الثوري على المستويين السياسي والعسكري وحتى المدني مجموعة من التجاذبات والاستقطابات السياسية المرتبطة بمنظومة المصالح الاقليمية والدولية، وهذا أمر طبيعي لو بقي في حدود روح الوطنية السورية، بينما يكمن الجانب المثير للجدل منه في مدى استجابة القوى المشكلة له للعامل الخارجي في معادلة الصراع الدائر على الأرض السورية والتماهي مع شروطه ومتطلباته، إلى درجة إلغاء الذات الوطنية في بعض الحالات أو ربما الكثير منها.

ثمة محطتان رئيسيتان شكلتا انعطافتين خطيرتين في مسيرة هذا الحراك، الأولى تمثلت في التسليم بمبدأ تصنيف القوى الثورية من منظور أعدائها على قاعدة محاربة ما يسمى بالإرهاب، ما يشكل حالة اصطفاف موازية يتخندق فيها بشكل موضوعي طرفا الصراع، أي النظام والمعارضة، ويعزز سردية الأول على حساب سردية الثاني في هذا الميدان، أما الانعطافة الثانية، فهي حديثة الولادة ونشهد فصولها في عملية فرز واختيار ممثلي الحراك الثوري، في مؤتمرات تعالج الشأن السوري مثل مؤتمر أستانة الذي استبعدت من المشاركة فيه التشكيلات السياسية الثورية والمعارضة لصالح التشكيلات العسكرية حصريا، وبذلك يكون المستوى السياسي من الصراع قد تراجع، في هذه المحطة، خطوات إلى الوراء ومن المرجح أن يترتب على ذلك تخل تدريجي عن حصيلة قرارات المجتمع الدولي المتعلقة بالشأن السوري ومعها مخرجات مؤتمر جنيف بنسختيه.

علاوة على ذلك وفي سياق رجحان كفة الصراع لصالح النظام وحلفائه الاقليميين والدوليين في الوقت الراهن، اثر التدخل الروسي الساحق منذ نهاية عام 2015 بالتناغم مع المجهود الحربي الايراني غير المسبوق الرامي إلى إعادة رسم الخريطة السياسية السورية الداخلية، بما يتجاوز مسألة بقاء رأس النظام أو رحيله، نجحت الترويكا الروسية التركية الايرانية في سحب الملف السوري من أروقة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي وحشرته في إطار مفاوضات ثنائية أو ثلاثية، على غرار إصرار القيادة الاسرائيلية ونجاحها في إبقاء مسألة معالجة الملف الفلسطيني حكرا على طرفي الصراع الاسرائيلي-الفلسطيني برعاية أمريكية، ما ينزع عن كلا الملفين طابعهما الانساني الكوني الشامل والعادل ويترك الشعبين الفلسطيني والسوري حبيسي صيغة إدارة الأزمات البعيدة بطبيعتها عن عناء البحث عن حلول سياسية جذرية وعادلة لها.

انطلاقا من هذه الفرضية، تكاثرت الدعوات في الآونة الأخيرة، وهذا أمر طبيعي أيضا، إلى التصدي لعملية مراجعة شاملة لأوضاع قوى الثورة والمعارضة السورية، وإلى إعادة قراءة المشهد السياسي السوري برمته من جديد، وموقع هذه القوى ودور كل منها فيه، فضلا عن الدعوة إلى رسم خريطة تحالفاتها على كافة الصعد والمستويات الداخلية والخارجية، على حد سواء، ما يشكل فرصة ذهبية أمام القوى العلمانية والديمقراطية الوطنية المعارضة، المغيبة عن هذا المشهد طوال سنوات وصاحبة الحق التاريخي في مقارعة النظام، لإحداث ثغرة في جدار خريطة القوى الاسلامية والجهوية المهيمنة عليه منذ سنوات، لكن دون أن يعنى ذلك الدخول في حالة صراع حادة معها، وإنما على قاعدة المشاركة وفتح قنوات اتصال وحوار معها بغية توسيع دائرة القوى المناهضة للنظام، وترسيخ موقفها المعارض له، وإغلاق الطريق أمام إمكانية التحاق فصائل عسكرية وربما قوى وشخصيات سياسية في ركب مصالحات وتسويات النظام، الذي يبدو مؤتمر أستانة شكلا موسعا منها وفقا لرؤية هذا النظام لحل نزاع لا يرى فيه سوى الجانب العسكري والأمني.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى