لا يزال رئيس روسيا فلاديمير بوتين منخرطاً في الأزمة – الحرب السورية، بل لا يزال طرفاً فيها أولاً الى جانب النظام السوري. وثانياً الى جانب إيران حليفة الأسد و”جيش” “حزب الله” حليفها وميليشيات شيعية متعددة الجنسية، وثالثاً الى جانب الدول في جهات العالم الأربع التي تحارب مباشرة إرهاب التنظيمات الاسلامية المتطرفة حتى التكفير والقتل، والأخرى التي تعاني انتشار الإرهاب جرّاء استغلال المخططين له والمنفذين لملايين اللاجئين السوريين الى أراضيها، وكذلك للمقيمين المسلمين فيها وأبنائها منهم.
وفي هذا الاطار يمكن وضع تركيا رجب طيب أردوغان. وقد حقّق بوتين بوصفه المذكور أعلاه إنجازاً مهماً بإنقاذ الأسد ونظامه من الانهيار، وهو أمر أكده هو ومسؤولون كبار في إدارته في الأسابيع القليلة الماضية، وإن على قسم من سوريا أصغر جغرافياً من الأراضي الخارجة عن سلطته، لكنها أكثر أهمية في رأيه ورأيها كونها أكبر ديموغرافياً إذا جاز التعبير على هذا النحو.
وحقّق أيضاً إنجازاً إيرانياً هو منع انكسار الجمهورية الاسلامية في سوريا وذلك كان ممكناً جداً، وربما منع استدراجها الى حرب واسعة مباشرة إنقاذاً للأسد ولمشروعها الاقليمي الطموح، قد لا يكون ربحها مضموناً نظراً الى القوى الاقليمية المعادية لها (إسرائيل والدول العربية) والقوى الدولية بزعامة أميركا. وحقّق إنجازاً روسياً مهماً جداً تمثّل أولاً في عودة بلاده لاعباً أساسياً في الشرق الأوسط، وفي تفوقها على الولايات المتحدة في سوريا حتى الآن على الأقل، وفي اجتذابها دولاً إسلامية عدة، كما في إغراء الكثيرين من المراهنين على أميركا الى التفكير في تغيير رهانهم. ولكن بعد انتظار ما يمكن أن يفعله رئيسها الجديد دونالد ترامب. علماً أن أقواله وقراراته خلال عشرة أيام لم تكن مطمئنة لهؤلاء.
ونجح بوتين أخيراً في جعل سوريا “المفيدة” على الأقل حتى الآن قاعدة عسكرية له وفي جعل إسرائيل اليمينية منذ نحو 8 سنوات تطمئن إليه وتتعاون معه في أكثر من ملف. هل موقفه المنحاز الى محور الممانعة المؤلف من نظام الأسد وإيران الاسلامية و”حزب الله” والمنفتح على أنقره والقاهرة والعواصم العربية في الخليج وربما لاحقاً على ليبيا “بعواصمها”، لا يمكن أن تتغير طبيعته؟
المسؤولون في موسكو لا يتحدثون رسمياً وعلانية عن هذا الأمر. لكن الاضافة الى استراتيجيتهم الشرق الأوسطية وتحديداً السورية والسياسة التطبيقية لها تفيد أنهم مع استمرارهم في ممارسة دور الطرف، بدأوا يمارسون دور الوسيط الفعلي بين الأسد ومعارضيه السياسيين والذين يقاتلون على الأرض. كما دور الوسيط بين دمشق وأنقرة وأنقرة وطهران وربما لاحقاً طهران وعواصم أخرى، وما اجتماع “أستانا” عاصمة كازاخستان الذي عُقد يومي 23 و24 من الشهر الجاري، ونجاحه وإن جزئياً في التزام وقف النار داخل سوريا وفي تعهد تثبيته، وفي الاعلان أن مفاوضات سياسية ستلي بعد أسابيع، ما ذلك كله إلّا ممارسة فعلية لدور الوسيط الذي استغل بجدارة انكفاء أميركا أوباما جزئياً عن المنطقة جرّاء غياب أي سياسة عملية لها فيها. كيف تحمي روسيا دوري الطرف في الحرب والوسيط في آن؟
تحميه أولاً بإزالة تبايناتهما مع إيران في سوريا وحولها التي لم تؤثر أبداً على تعاونهما في حربها، وعلى علاقتهما التي أضحت استناداً الى قوى مطلعة “تحالف وأكثر”. وتحميه ثانياً بإقناع الأسد ونظامه بتسوية سياسية لا تعيد إنتاج نظام استبدادي – مخابراتي – قمعي – آحادي الحزبية – أقلّوي السيطرة. كما بإقناع أعدائه بالحل الوسط الذي يعيد للشعب السوري مشاركته في حكم بلاده وللأخيرة التقدم والازدهار والدور الاقليمي. وتحميه ثالثاً ببقائها العسكري في سوريا عبر قاعدتيها العسكريتين الجوية والبحرية وربما عبر قواعد أخرى إذا لزم.
لكن العامل الأهم الذي يكرّس روسيا الوسيط هو تلافيها الوقوع في “أفغانستان” ثانية في سوريا، أي خوض حرب عسكرية واسعة تجعل هذه الدولة ساحة ينازلها فيها العالم الاسلامي والعالم العربي والدول الكبرى المعادية لها. أو الخائفة منها. فهزيمة سلَفِها الاتحاد السوفياتي هناك تسبّبت بانهياره، وهزيمة مشابهة في سوريا سيكون لها الأثر نفسه، ولا سيما في ظل وضعها الاقتصادي الصعب وحاجتها الى التحديث، وهبوط أسعار النفط.
ويبدو استناداً الى معلومات جهات موثوقة جداً وعلى صلة بموسكو أن بوتين مصرّ على الآتي: (No More Afghanistan) أي لا “أفغانستان جديدة لبلاده”.
المصدر : النهار