وجديد الحكاية إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، موافقته على إنشاء منطقة آمنة في سورية، بخلاف سياسة سلفه أوباما، الرافضة، وطيلة سنوات، تلك الفكرة. وقديم الحكاية، مطالبة مبكرة لأهم قوى المعارضة السورية بمنطقة آمنة، واكبتها دعوات متكررة لحكومة أنقرة تحض الغرب والمجتمع الدولي، على تبني هذا الخيار، وتلاها تصريحات أوروبية متأخرة داعمة له. والأمثلة، إنشاء منطقة آمنة شمال العراق عام 1991، ثم في البوسنة عام 1992، وبعدهما في ليبيا عام 2011 عبر حظر جوي سمح للحلف الأطلسي بمحاصرة قوات القذافي وشل حركتها.
وإذ تتوزع دوافع المهتمين بإقامة منطقة آمنة في سورية، بين الغايات السياسية أو الأهداف العسكرية والأمنية أو الحاجة الإنسانية، فالواضح أن الهاجس الأمني وكفّ شر اللاجئين السوريين عن بلاده، هما العاملان الأساسيان وراء موافقة دونالد ترامب على المنطقة الآمنة، ليشجع بحجتها السكان المدنيين على البقاء داخل أرضهم، ويخفف حركة اللجوء والهجرة نحو الغرب، والدليل تزامن موافقته على المنطقة الآمنة مع قراره التنفيذي بمنع دخول مواطني سبع دول، ومنها سورية، إلى الولايات المتحدة. فكيف الحال والكل بات يعرف عنصرية الرئيس الأميركي الجديد وشعاراته الشعبوية، وأنه لم يعر قضية السوريين ومعاناتهم المريرة أي اهتمام! بينما طالب الأوروبيون بالمنطقة الآمنة، ربما كموقف إنساني يقيهم ضغط الرأي العام نتيجة عجزهم عن حماية المدنيين السوريين أمام فظاعة ما يتعرضون له من فتك وتنكيل، والأهم التعويل على المنطقة الآمنة لاحتواء سيل الهاربين من أتون العنف وتخميد نزوعهم للهجرة نحو البلدان الأوروبية، وأيضاً لضمان إغلاق الحدود وتشديد الحصار بصورة محكمة في وجه حركة الجهاديين الإسلامويين.
أسباب عدة كانت تقف وراء مطلب أنقرة بالمنطقة الآمنة، تبدأ بوقف تدفق المزيد من اللاجئين السوريين الى أراضيها، مروراً بتوظيف تلك المنطقة كشريط عازل على طول الحدود لمواجهة تبلور وضع عسكري وميداني للأكراد السوريين يؤهلهم لإقامة كانتونهم القومي، مروراً بتحويل المنطقة الآمنة إلى ما يشبه القاعدة لتجميع فصائل المعارضة المقربين منها وتأهيلهم لمواجهة النظام، وانتهاءً بالرهان على إدارة هذه المنطقة لتفعيل نفوذ حكومة أنقرة وشرعنة حضورها السياسي والعسكري وفرص محاصصتها على المستقبل السوري.
«المنطقة العازلة مطلبنا» شعار رفعه المتظاهرون السوريون مطلع كانون الأول (ديسمبر) 2011، بدعم ومساندة أهم قوى المعارضة، لكن هذه المساندة، لم تنطلق فقط من دافع الحاجة الإنسانية وتخفيف معاناة السوريين، بقدر ما انطلقت من غايات سياسية وعسكرية، في رهان على أن يفضي القرار الأممي بفرض حظر جوي ومنطقة آمنة الى تدخل عسكري غربي يمكنه شل قدرات السلطة السورية، تشبهاً بما حصل في ليبيا، مع استثمار حمائية تلك المنطقة كمركز للتدريب والتعبئة وإدارة المعارك والهجمات ضد القوات النظامية.
لكنْ ثمة مياه كثيرة جرت، أفقدت المنطقة الآمنة جدواها السياسية وأغراضها العسكرية وغيرت الحسابات والمواقف، وأهمها التداعيات النوعية التي خلفتها معركة حلب في توازنات القوى، وتبدل بعض الاصطفافات والتحالفات الإقليمية والدولية، وأوضحها التفاهم المثير، عسكرياً وسياسياً، بين روسيا وتركيا حول الشأن السوري.
ويبقى الثابت إصرار النظام السوري وحليفيه روسيا وإيران على رفض فكرة المنطقة الآمنة، تحت ادعاء أنها تشرعن تقسيم البلاد! ولا يضعف هذا الإصرار رد موسكو المرن على تصريح ترامب وإبداء تفهمها لإنشاء منطقة آمنة شريطة موافقة دمشق عليها، بل يؤكده تاريخ من تصعيدهم العنف وتشديد الحصار لإثارة رعب المدنيين وإرهابهم وإجبارهم على الفرار أو تهجيرهم قسرياً، ومن رفضهم تحييد أية بقعة سورية يناهضها أهلها، ويمكنها استقبال النازحين وتجنيبهم شروط اللجوء القاسية في بلدان الجوار!
هو نوع من المبالغة وإحلال الرغبات مكان الوقائع، الاعتقاد بأن ثمة سياسة أميركية جديدة تجاه سورية بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض، واعتبار موافقته على المنطقة الآمنة محاولة لخلط الأوراق وتبديل قواعد اللعب، ودليلهم تصعيده الإعلامي ضد إيران والدعم المستجد لتقدم قوات سورية الديموقراطية نحو مدينة الرقة، أهم معاقل تنظيم «داعش»، لكن علينا أن لا ننسى أن ترامب هو الأقرب والأكثر تسليماً لدور موسكو في تقرير المصير السوري، وأن ثمة مهمة عميقة تشغله يصعب أن يفكر في غيرها، هي أولوية سحق الإرهاب الإسلاموي واستئصال «داعش». وإذا كان ثمة جديد فهو مطالبته بأن يقع على كاهل دول عربية وإقليمية جل الأعباء المادية لإنشاء المنطقة الآمنة، أسوة بدعوته لتحميل حكومة المكسيك التكلفة المادية لمشروع بناء السور العازل بين البلدين، والجديد أيضاً أن بعض الدول الأوروبية اتكأت على إعلان ترامب لتشديد مطالبتها بمنطقة آمنة، وتوسلته لتخفيف موجات اللجوء إلى أراضيها وتنشيط مساهمتها في معالجة الصراع السوري.
ويرجح أن تتعامل أنقرة بمواربة مع إعلان الرئيس الأميركي، فهي مكرهة على الترحيب به من حيث المبدأ انسجاماً مع دعواتها السابقة لإقامة منطقة آمنة، لكنها لن تغامر بالمضي قدماً في دعمه إن شعرت أنه يخلّ بتفاهمها واصطفافها مع موسكو، ويهدد ما حققته من نتائج على الأرض، بخاصة وأنها غير مطمئنة لسياسة واشنطن الداعمة بقوة لخصومها الأكراد، وتخشى أن تشمل المنطقة الآمنة أماكن خاضعة لقوات سورية الديموقراطية ما يشرعن الوجود الكردي ويعزز حضوره العسكري ودوره السياسي في المستقبل السوري.
والحال، هل تستطيع المعارضة التي طالما طالبت بمنطقة آمنة دفع موقفها إلى الأمام ودعم إعلان ترامب متجاوزة مصالح حلفائها الإقليميين وحساباتهم؟ وهل تسمح المستجدات اليوم بتبلور تفاهم أممي يفرض منطقة آمنة تكون حلقة داعمة لمسار التسوية السياسية، وفاتحة لتخفيف معاناة السوريين وما يكابدونه؟ أم سيبقى هذا المطلب سبباً لمزيد من التجاذبات الإقليمية والدولية وحافزاً لتسعير الصراع الدموي، والأسوأ لتعميق حالة الانقسام والتشظي وخطر تثبيت اللاجئين المنكوبين حيث هم لأمد طويل؟!
المصدر : الحياة