التعليقات التي ضجت بها وسائل التواصل الاجتماعي اللبنانية في أعقاب تعيين الجنرال جوزيف عون قائداً للجيش اللبناني لا تغني عن محاولة تفسير هادئة لما حمله هذه التعيين من دلالات توريثية. إنه الجنرال جوزيف عون. وهو لا يمت بقرابة مباشرة للعماد ميشال عون، تماماً كما هي حال النائب السابق ومرشح التيار العوني الدائم، سليم عون، الذي بدوره لا يمت بقرابة مباشرة للرئيس ميشال عون. أما العونيون الآخرون، فيمتون للرئيس بقرابة مباشرة، لا بل أن جزءاً منهم ليسوا من آل عون لكنهم يمتون للرئيس بقرابة مباشرة، وأعني هنا صهرا الرئيس الوزير جبران باسيل والجنرال الآخر شامل روكز. وهما تصدرا الصالون العوني متقدمين على ابن شقيقة الرئيس النائب ألان عون، وصار لزوجة أحدهما موقع رسمي في القصر الجمهوري.
والحال إن لبنان هو نموذج متقدم في توريث سياسييه عائلاتهم أحزاباً ومناصب وثروات سياسية، ولعل الطرفة التي تُنقل عن وليد جنبلاط على هذا الصعيد تُفسر بعضاً من هذه الحقيقة، فقد زارته، يوم كان رئيساً للحركة الوطنية اللبنانية، ناشطة يسارية فرنسية، بصفته عضواً في الاشتراكية الدولية وسألته عن حقيقة أنه ورث عن أبيه حزباً «يسارياً»، فأجابها أن والده أورثه حزباً يسارياً وتحالفاً سياسياً يضم ثلاثة أحزاب شيوعية وحزبين اشتراكيين وطائفة بكاملها.
لكننا في الحالة العونية أمام نموذج آخر من التوريث، إنه التوريث الأفقي، المترافق مع علاقة مع التحديث. فآل عون ليسوا عائلة سياسية. لم يرثوا لكي يورثوا، وهم نموذج عن صعودٍ من الطبقة المتوسطة إلى الطبقة السياسية، وهو ما يجعل توارثهم من غير تقاليد ويفتحه على العائلة الأوسع، فالطموحات مفتوحة وتشمل الجميع.
والحريرية في شملها الأقارب في مواقعها السياسية لم تعمل وفق هذا المنطق، فهي لم تأت إلى السياسة من تقاليد لبنانية، وحزب الكتائب عندما أورث الجد الأبناء موقعه فيه، وها هم الأحفاد يتصدرون الحزب مجدداً، لم يكن سخياً، واقتصر التوريث على العائلة العمودية. العونية أمر آخر، ذاك أن أفقيتها هي امتداد لطبيعة التيار العوني بصفته ممثلاً للطبقة المتوسطة المدينية المسيحية. فقد زوج الجنرال ابنتيه من ضابط ومهندس. والطبقة المتوسطة، وخلال صعودها وترقيها، تنقل إلى المراتب التي تبلغها جزءاً من نماذج تبادلاتها. الأصهار هم جزء من مشهدها، والعائلة الأوسع أيضاً، وضجيج الأبناء والبنات والأحفاد يصبح جزءاً من الصورة الرسمية للرئيس.
ثم أن الرئيس عسكري أيضاً، ولأي رئيس عسكري علاقة مختلفة مع بناته وأصهاره، بدءاً من جمال عبد الناصر ومروراً بصدام حسين ووصولاً إلى حافظ الأسد، إذ يبدو أن الضابط في هذه الجيوش يخضع في عملية تأهيله لتحديث يبقى شخصياً ولا يطاول وعيه السياسي. يصبح للابنة في حياته موقع من دون أن يكون ذلك بنية ذهنية أوسع تشمل التخفف من زلل التوريث، وهو، أي الرئيس، إذ يستعيض عنها بزوجها، إنما يفعل ذلك لتعويض عاطفة مستجدة حيالها لا يمكن له أن يترجمها توريثاً.
لكن، ثمة لحظة تتكشف حقيقة مأسوية أخرى وتنفجر فيها هذه العلاقة غير الرحمية، فالصهر قريب مفتعل، وليس ابناً في النهاية، وجمال عبد الناصر لم يعدم صهره أشرف مروان لأنه رحل قبل أن يكتشف أن الأخير خانه مع الإسرائيليين، لكن أصهرة الرئيسين صدام حسين وحافظ الأسد قتلوا ثلاثتهم على أيدي أجهزة أعمامهم.
لبنان لم يشهد تقاليد علاقات دموية على نحو ما شهدته العلاقات في العائلات العسكرية التي حكمت دول المشرق الأخرى. هذا أيضاً ما يُفسر سهولة تناول ظاهرة التوريث الأفقي العوني بصفتها طرفة مُخففة، لكنها دالة على طبيعة علاقات مستجدّة حملتها العونية إلى الحياة السياسية اللبنانية. إنها نظرة مخفّفة إلى التوريث وتعميمه أفقياً، وجعله سهلاً وعادياً وغير خاضع للشروط الصارمة للتوريث التقليدي. أنت من آل عون، إذاً أمامك فرصة للترقي. إنها عادية متوسطي الحال والخيال، عندما ينقلون عاديتهم إلى مواقعهم غير العادية.
لكن، يبقى أن التعليقات التي حفلت بها وسائل التواصل الاجتماعي على إمعان العونية بالتوريث وعلى عدم اكتراثها بـ «الإصلاح والتغيير» الذي تدعيه، أغفلت حقيقة أن هذا التوريث العادي يحصنها من إمكان تحولها قوة أيديولوجية، هي الأفق الوحيد لغير المورثيِن في مشرقنا. و «حزب الله» على هذا الصعيد نموذج.
المصدر : الحياة