مقالات

ميشيل كيلو – رسائل إسرائيلية

بانصياع نظام الأسد للاتفاق الأميركي الروسي حول تسليم أسلحته الكيميائية للأمم المتحدة، يكون الشق الأمني من سياسات إسرائيل السورية قد نجح في نزع قوة “نظام الممانعة” المزعوم الافتراضية، وانتقل إلى الصراع على مستقبل سورية السياسي، بالدرجة الأولى مع إيران ومرتزقتها الذين يحتلون أجزاء كبيرة منها، ويريدون تحويلها إلى ساحة مواجهة تشكل مع جنوب لبنان جبهة واحدة ضد إسرائيل التي احتلت الجولان السوري عام 1967، وضمه برلمانها إليها رسميا عام 1981، بسبب مكانته الاستراتيجية الخاصة التي تمكّنها من تعزيز قدرتها على ردع أي تحد يكون مصدره المشرق العربي وجواره. يقول الإسرائيليون إنهم لن يقبلوا وجود إيران العسكري في المناطق المجاورة للجولان، وإن انتشار جيش ملالي طهران ومرتزقتهم في الجولان سيقضي تماما على تعايش نظام الأسد بسلام معها منذ حرب 1973، القائم على قبوله نتائج هزيمة حزيران، وتحاشيه أي صدام عسكري معها، خوفا على نظامه.

رضي الأسد بهيمنة إسرائيل على سورية أمراً واقعاً، ومارس دوره الداخلي والعربي تحت رعايتها، المباشرة في لبنان وفلسطين وغير المباشرة في سورية والبلدان العربية الأخرى، على الرغم من طوفان الكلام الثورجي اليومي عن تحرير الجولان وفلسطين.

ومع أن الأسد الأب وابنه استقويا بإيران، إلا أنهما حرصا دوما على إبعاد سورية عن ما تريده طهران، تحويله إلى قاعدة متقدمة لصراع ضد تل أبيب، تعود مغانمه العربية والإسلامية الاستراتيجية وغير المحدودة على ملاليها، بهيمنةٍ مضمونةٍ على مناطق واسعة من الوطن العربي، من دون توريطهم في حربٍ لا قبل لهم بها، يعلمون أن طرفها الآخر لن يقتصر على الإسرائيليين، الذين لن يقبلوا وجودا عسكريا إيرانيا في الجولان، بعد أن تم تدجين حزب الله في جنوب لبنان، وأدخله الردع الإسرائيلي إلى حقبة كلامولوجية، تشبه الزمن الجولاني الذي لا يفعل شيئا لتحريره غير إطلاق حملات رغاء كلامي عن تحريره، من دون أن يفعل شيئا لاستعادته إلى وطنه.

لا شك في أن إيران فهمت معنى غارات إسرائيل على جنرالاتها في الأرض السورية،خصوصا منها المحاذية للجولان، ولا شك في أن إسرائيل تشجعت بعدم رد الملالي عليها، وكثفت غاراتها على سلاح حزب الله، في كل مكان من سورية، تطبيقا لنهج في الردع الاستباقي القابل للتصعيد بلا حدود، وموضوعه هل تبقى هيمنة إسرائيل أم تزول أمام هيمنة إيران التي يريد الملالي تحويلها إلى سيطرةٍ على سورية لا منافس لها. هذه هي الرسالة الأولى التي لا بد أن تكون قد وصلت.

أما الرسالة الثانية، فهي تتعلق بخيارات العمل الإسرائيلي وممكناته في سورية، وهي موجهة إلى موسكو، الراغبة في تقليص حضور (ونفوذ) إيران ومرتزقتها في سورية، لكنها لن تتمكّن من فعل شيء جدي ضدها، خشية أن تختلف مع واشنطن حول المسألة السورية، وتكون بحاجة إلى عسكر إيران في صراع محتمل مع عسكر البيت الأبيض. في هذه اللحظة الحسّاسة جدا، تتقدم إسرائيل إلى واجهة المسرح، لتخبر الروس باستعدادها لزيادة حصتها من النفوذ والدور في سورية، ودعمهم في مسائل تتصل بعلاقاتهم مع واشنطن، مقابل تقليص حضور ايران ونفوذها في سورية، والتعامل معها باعتبارها جهةً ينبذها الطرفان، تنافس موسكو على سورية، وتخطط لإقامة جبهة عسكرية في الجولان، إن أبقت قواتها في سورية، فوتت على الروس فرص تموضعهم فيها وانتشارهم في جوارها.

هذا العرض الإسرائيلي بواسطة القوة المفرطة يتضمن أيضا ضدها شقا أميركيا يقول: تخضع علاقات التعاون بيننا وبين موسكو لظرفية الأحداث وتقلباتها، ولتوافق المصالح أو تضاربها. ومع أننا نريد دورا روسيا في إخراج إيران من سورية، فإننا لن نحجم عن انتهاج سياسات مستقلة عن الروس، وقد لا تعجبهم. لذلك، أبلغنا الكرملين رفضنا الالتزام بغير ما تمليه علينا مصالحنا، وأفهمناهم، وإن بطريقة غير مباشرة، أننا لا نخشى صواريخهم، عندما هدّدنا الأسد بتدمير قواعده الصاروخيه، فلا يعتقدن أحد من الآن فصاعدا أن إسرائيل تقبل أن تتقيد بما تتوهم موسكو أنها ترسمه لها من هوامش، يمنع عليها التحرك خارجها. هذا ليس صحيحا، فإسرائيل تلتزم بالتعاون إن خدمها، وترفضه إن قيد حركتها وتضارب مع مصالحها. ومثلما تعتبر سورية ساحة صراع روسي/ إيراني مضمر، فإنها أيضا ساحة صراع إسرائيلي/ روسي، أعلن عن نفسه خيرا بصور شتى، عبر التصريحات والغارات الجوية المفعمة بالتحدّي.

هناك، أخيرا رسالة ثالثة موجهة إلى أميركا، تقول إسرائيل فيها: أنتم ترابطون اليوم في الشمال السوري بقوة عسكرية كبيرة، تتكامل مع قواتكم التي ترابط شمال العراق، وتشكل معها قوة أكبر من تجمع الروس العسكري في سورية. تود غاراتنا لفت أنظاركم إلى أن موقعنا في جنوب سورية، المطل على الأردن وشبه الجزيرة العربية ومصر وشرق المتوسط، يجب أن يؤخذ في حساباتكم الكبيرة، إذا أردتم الانخراط في لعب دور جدّي ضد الكرملين وملالي طهران. اعلموا أن إسرائيل جاهزة، ولا تنسوا أن لديها جيشا بريا هو الأقوى والأكبر عدديا في المنطقة، وأنها ترى في التنسيق الاستراتيجي معكم بوابةً يمكن أن تلج عبرها، أخيرا، إلى العالم العربي، وتغدو إحدى القوى المقرّرة لراهنه ومستقبله، بفضل دورها المساند لكم ضد طهران، فاقدموا ولا تحجموا، وبادروا ولا تترددوا.
بالغارات الأخيرة، دخلت إسرائيل على خط صراعٍ يتسع بدل أن يتراجع، ويتحول إلى صراع بين الجبارين، يرجح أن تخوضه قواهما المباشرة التي تحتسب إسرائيل نفسها على إحداهما: أميركا.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى