وعد الرئيس إيمانويل ماكرون الشعب الفرنسي خلال حملته أن يعمل على أن تكون مكافحة الإرهاب القاتل والمجنون الذي ضرب البلد مرات عدة، من أولوياته. وفي بداية عهده، أسرع في إعادة تنظيم بنية الأمن في بلده ووضعها تحت إدارته مباشرة والتركيز على تحسين أداء الاستخبارات الخارجية والداخلية. وفي هذا الإطار، أحسن ماكرون باختيار برنار إيميه الديبلوماسي اللامع وهو في الـ٥٩ من عمره، رئيساً لجهاز الاستخبارات الخارجية لخلافة ديبلوماسي آخر مخضرم ومستشرق كان رئيس هذه المؤسسة الأمنية هو السفير برنار باجولي الذي أنهى عمله مع بلوغه سن التقاعد. وإيميه هو حالياً سفير فرنسا في الجزائر وسيتسلم منصبه الجديد في نهاية الشهر.
وهو وجه معروف في الأردن وفي لبنان وتركيا وبريطانيا حيث عمل سفيراً في كل منها. كما أنه وجه معروف من المسؤولين العرب الذين تعاملوا معه عندما كان مستشاراً للرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك لشؤون الشرق الأوسط بعد أن عمل مديراً لقسم الشرق الأوسط في الخارجية الفرنسية ومستشاراً في وزارة الخارجية عندما كان رئيس الحكومة السابق آلان جوبيه وزيراً للخارجية في عهد الرئيس الراحل فرنسوا ميتران.
وإيميه يعتبر جوبيه معلمه في الديبلوماسية وفي إدمان العمل. وهو يعتبر في الخارجية الفرنسية من ألمع الديبلوماسيين فيها. ومن أهم المهمات وأصعبها التي كلفه بها شيراك كان الملف اللبناني. ويروي شيراك في مذكراته أنه في بداية عام ٢٠٠٤ بدأ يدرس مع صديقه الرئيس الشهيد رفيق الحريري إمكان التوجه إلى مجلس الأمن من أجل التصويت على قرار يفرض على سورية سحب قواتها من لبنان. ورأى شيراك أنه لا يمكن الوصول إلى ذلك إلا بالتعاون مع الولايات المتحدة. وأوكلت مهمة جس نبض الأميركيين حينذاك إلى إيميه الذي زار واشنطن في شباط (فبراير) ٢٠٠٤ وعاد متفائلاً بإمكان تعاون الأميركيين والتقرب منهم رغم ما حصل معهم عندما عارض شيراك التدخل الأميركي في العراق. ثم عين شيراك إيميه سفيراً في لبنان وأرسله ليكون منفذ سياسته وتوجهاته من أجل تقدم لبنان في عهد صديقه الحريري.
وكانت ثقة الرئيس الفرنسي كبيرة في إيميه. ووصل السفير الشاب اللامع ليتسلم مهماته في تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٤ قبل بضعة أشهر من اغتيال صديق رئيسه الذي سعى معه لاستقلال لبنان. وبقي إيميه سفيراً في هذا البلد في فترة ثورة الأرز وكان شاهداً على الاغتيالات المتتالية التي ضربت شباب لبنان من سمير قصير إلى جبران تويني إلى ما تبع ذلك من إجرام، وكان ألمه كبيراً لسقوط شهداء عرفهم وقدرهم لتوجهاتهم الوطنية. كما كان مع نظيره الأميركي حينذاك جيفري فلتمان الديبلوماسيين النجمين خلال محنة لبنان بعد اغتيال الحريري. ثم جاء اجتياح إسرائيل الوحشي للبنانَ في ٢٠٠٦. وبقي إيميه وحده يعمل من دون انقطاع ليلاً نهاراً من مقر السفارة الفرنسية في قصر الصنوبر بشجاعته المعهودة فيما زوجته إيزابيل وأولاده الثلاثة كانوا في باريس لترحيل أفراد الجاليات الفرنسية والرعايا الذين يحملون جنسية مزدوجة لبنانية وفرنسية على البواخر الحربية والطوافات الفرنسية التي كانت تعمل من دون انقطاع. وانتظر إيميه أن يرحل آخر فرنسي قبل أن يغادر البلد ويعمل من فرنسا للسعي لوقف الاجتياح. وأشاد به كثيرون حينذاك لأنه لم يتهرب من مسؤولياته رغم خطورة الظرف وصعوبته.
هذه هي الشخصية اللامعة الشجاعة التي اختارها ماكرون لترؤس جهاز استخبارات خارجي ستكون أولويته الحصول على معلومات ثمينة من منطقة الشرق الأوسط في شكل أساسي ومن العالم بأسره من أجل التصدي للإرهاب. فهي مهمة ضخمة بالغة الخطورة والدقة ولكنه بمستوى مسؤولية سلفيه الديبلوماسيين جان كلود كوسران وبرنار باجولي.
ومشاهدة الكوارث التي انهالت على لبنان خلال فترة وجوده وتعامله في هذا البلد عززت من صلابة خبرته. فها هو هذا الديبلوماسي المعروف بأنه متطلب وأحياناً قاس، وعموماً ودّي وممازح ووفي للأصدقاء، على رأس أكبر مؤسسة استخبارات في فرنسا التي تضم ٧ آلاف شخص ولديها أكبر موازنة في وزارة الدفاع الفرنسية. فهذه الاستخبارات الخارجية بالتنسيق مع الاستخبارات الداخلية التي يرأسها مسؤول كبير من شرطة مرسيليا هو لوران نونيز ستشكل القوة الضاربة للإرهاب التي سيعلن ماكرون إنشاءها يوم ٢١ حزيران (يونيو) في إطار تشكيله مركزاً وطنياً لمكافحة الإرهاب يرأسه بيار دو بوسكي دو فلوريان المقرب من الرئيس السابق جاك شيراك للعمل والتنسيق على مدار الساعة بين جميع أجهزة الاستخبارات ليكون بتصرف الرئاسة للتصدي للإرهاب.
المصدر : الحياة