مثل انطلاق الثورة السورية في العام 2011 رداً “شعبياً” على سياساتٍ كثيرة للنظام السوري، في مقدمتها توجهاته الاقتصادية التي كانت ماضية في اتجاه تدمير البنية الصناعية والزراعية السورية، الرثة أصلا، لصالح انتعاش تجاري وسياحي ومالي، تستفيد منه فئة محدودة، وعلى ارتباط وثيق بالنظام السياسي والأمني، يصل إلى درجة الانصهار معه.
ونظرا لقناعته بوجود ارتباط جوهري بين توجهاته الاقتصادية نحو اقتصاد السوق، عمليا نحو تبعية اقتصادية، والثورة السورية، فقد تبنى النظام خطابا إعلاميا مغايرا وناقدا، ما بعد انطلاق الثورة في 2011، مجمل التوجهات الاقتصادية السابقة. ليعترف النظام السوري آنذاك بأن سياسات الانفتاح الاقتصادي، والتسهيلات الجمركية لبعض دول الجوار، وخصوصا تركيا، وتوجهات الحكومة السورية نحو تقليص مصاريف الدعم الحكومي العلمية والصحية والمعيشية والاقتصادية، مثل تقليص دعم المشتقات النفطية، قد ساهمت في تصاعد الاحتقان والغضب الشعبي.
كما سارع النظام في إيجاد كبش فداء يتحمل وحده مسؤولية التوجهات الاقتصادية المذكورة، وتبعاتها الاجتماعية والسياسية الحاصلة، حيث تم إعفاء نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، عبد الله الدردري، من جميع مناصبه ومسؤولياته الرسمية، ليصبح الدردري مادة إعلامية دسمة على جميع الوسائل الإعلامية التابعة والمقربة من النظام السوري، متناسية خطابها القديم نسبيا ما قبل الثورة، والذي كان يشيد ويتغنى بذكاء الرئيس الشاب وقدرته على استقطاب أهم الخبرات والكفاءات السورية في الخارج وخصوصا عبد الله الدردري، كما تناست هذه القنوات والمحطات الإعلامية ترويجها قبل الثورة جميع إجراءات الانفتاح الاقتصادي وقوانينه، ليتحول المشهد الإعلامي السوري، بين يوم وليلة، إلى تبني رواية غريبة جدا، وعلى درجة كبيرة من الفجاجة في الكذب والتزوير، تتلخص بإخلاء مسؤولية الرئيس والحكومة السورية السياسية والاقتصادية والأخلاقية، على حساب تحميل الدردري كامل المسؤولية، وكأن جميع الوزراء وجميع القيادات الأمنية والعسكرية، وفي مقدمتهم الرئيس، مجرد أسماء ومناصب شكلية وهامشية، حتى أنهم لا يملكون حق إبداء الرأي والاعتراض على أيٍّ من سياسات الدردري الاقتصادية الهدامة!
على كل حال، وبغض النظر عن الدخول في تفاصيل باتت قديمة نسبياً، وإن كانت على ارتباط وثيق باليوم، فقد تم التخلص، وبنجاح، من الشخص المسؤول عن تلك السياسات الاقتصادية. لذا، من الطبيعي والمنطقي سير الحكومة والنظام السوري في طريق مغاير تماما عنها اليوم. لكن الخطاب والوقائع والقوانين والمعاهدات الموقعة حديثاً تشير إلى عودة سياسات الانفتاح الاقتصادي، أو سياسات الدردري كما كانت تسميها وسائل إعلام النظام، مع تغيير المظهر الخارجي لها، فنحن اليوم أمام دور إيراني وروسي، وربما صيني أيضا بدلا من دور تركيا والاتحاد الأوروبي السابق في فرض تبعية الاقتصاد السوري بالمركز الإمبريالي العالمي.
تخلى النظام عن جميع المصادر مضمونة الربح، لصالح تحالف الدول التي حافظت حتى اليوم على بقائه، ليتم بيع عقود استثمار ثروات سورية الباطنية النفطية والغازية، بما فيها المتعلقة باستخراج الفوسفور لهم، فضلا عن المرافئ والموانئ الساحلية وعقود استثمار في قطاع الاتصالات، وجزء مهم من الثروة الزراعية، وربما الحيوانية أيضا، وفقا لما تم الإعلان عنه من الاتفاقات والعقود فقط، فضلا عن عقود إعادة الإعمار وعن عقود الاستثمارات السياحية طويلة الأجل، ليتخلى النظام السوري عن المصادر الرئيسية لميزانيته السنوية (الدخل القومي)، ما يفرض على أي حكومة قادمة تقليص المصروفات التنموية الداخلية العلمية والطبية، فضلا عن تقليص مصروفات الدولة المرتبطة بسياسة الدعم الحكومي في مجال الطاقة عموما، وفي المجال المعيشي كذلك.
وهو ما تعكسه تصريحات مسؤولين في الحكومة والنظام السوري الذين يتحدثون، وبكل وضوح، عن أن الدولة عاجزة عن تأمين جميع مستلزمات المواطن السوري الخدمية والحياتية. لذا يجب إعطاء دور أكبر للقطاع الخاص في المجالات الصحية والعلمية، وفي مجال تأمين مستلزمات الطاقة النفطية والكهربائية، تمهيدا لإلغاء أي دور للدولة، وتترافق تلك التصريحات مع تصريحات أخرى تعبر عن إخلاء مسؤولية الحكومة والنظام السوري تجاه مواطنيها على صعيد تأمين المستلزمات الغذائية والمعيشية البسيطة.
قد يعتبر بعضهم أن عملية بيع سورية للإيرانيين والروس مؤقتة وضرورية، من أجل الدفاع عن سورية “في مواجهة الإرهاب والمؤامرة الكونية”، أو ثمنا بخسا كي يحافظ بشار الأسد على سلطته السياسية والأمنية (وجهة نظر المعارضة)، غير أن ربط الحاصل اليوم بسياسات النظام ما قبل الثورة يشير، وبكل وضوح، إلى مسار النظام السوري منذ نهاية التسعينيات في اتجاه تخليه عن هموم السوريين وحاجاتهم لصالح مجموعة محدودة من المقرّبين والنافذين، أشهرهم رامي مخلوف. ما يعني أن الخطاب الإعلامي الرسمي ما بعد انطلاق الثورة مجرد مناورة تكتيكية من النظام، بغرض امتصاص الغضب الشعبي وتطويقه، خوفا من تصاعده ونموه ليطاول مناطق جديدة، ويصبح احتواؤه أو مواجهته مستحيلة، لا سيما إن برزت قوى سياسية تعبر عن تطلعات ثورية شاملة، وتطرح تغييرا شاملا يطاول مجمل البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة، حيث كان خطاب جميع القوى المعارضة السياسية المعروفة، ولا سيما الائتلاف والمجلس الوطني، وما زال، يرتكز على تحقيق الانتقال الديمقراطي فقط مع تهميشٍ كامل ومقصود لمجمل التوجهات الاقتصادية، ما يعني قبولها جميع هذه الممارسات مع تحفظاتٍ قد تنحصر بهوية الطبقة أو الفئة الاجتماعية المستفيدة من سياسات الانفتاح الاقتصادي، أي يصبح الخلاف أو الاحتجاج الاقتصادي محصورا بهوية أصحاب رؤوس الأموال الذين سوف يقطفون ثمار الانفتاح عبر الوكالات الحصرية التجارية والمالية وشركاء محليين أو حصريين في الاستثمارات السياحية المزمع إقامتها.
لا يمكن اعتبار التوجهات الاقتصادية السورية مسألة ثانوية وهامشية، بل لا بد من الانطلاق من أنها إحدى أهم الركائز المكونة للنظام السياسي، الحالي والمستقبلي. لذا لا بد من فضح النهج الاقتصادي السياسي الحالي، والمستمر منذ نهاية التسعينات، انظلاقا من تبعاته الكارثية على بنية الدولة والمجتمع السوري، والعمل على طرح المبادئ الاقتصادية الرئيسية والضرورية، من أجل بناء مجتمع سوري متماسك ومتطور صناعيا وعلميا وخدميا، بدلا من الاستمرار في حصر خطاب المعارضة في النواحي السياسية، على الرغم من أهميتها الراهنة والمستقبلية، إذ يتطلب الانتقال إلى مجتمع تسوده الحرية والعدالة والمساواة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين جميع أبنائه العمل على بناء دولة مستقلة اقتصاديا وماليا. وبالتالي، رفض جميع أشكال التبعية الاقتصادية، تركية وأوروبية كانت أم إيرانية وروسية، فقضية الحرية والعدالة كتلة واحدة لا تتجزأ.
العربي الجديد