في خريف 1984، خلال مقابلة شهيرة مع أسبوعية «دير شبيغل» الألمانية، أعلن اللواء (يومذاك) مصطفى طلاس، وزير دفاع النظام الذي رحل مؤخراً في باريس، عن 85 عاماً؛ أنه، حين سيتقاعد من الجيش، سوف ينشر ديواناً شعرياً يكرسه، بالكامل، لـ19 امرأة يعتبرهنّ الأجمل في العالم (وضرب بعض الأمثلة: الأميرة ديانا، كارولين موناكو، جينا لولوبريجيدا، جورجينا رزق، جين مانسون…). وماذا ستسمّي الديوان، يسأله الصحافي الألماني؟ «مخدّة المؤرَّق»، يجيب طلاس؛ نافياً بذلك، غفلة أو حتى عن سابق عمد، تصريحه في المقابلة إياها أنّ توقيعه على أوامر بإعدام 150 معارض أسبوعياً، أثناء تلك الحقبة، قد أرّق رقاده على أيّ نحو يشبه ما تصيبه به المخدات الموقّعة بأحمر شفاه الحسان!
وكما هو معروف، كان طلاس قد تقاعد، برتبة عماد أوّل، بعد 32 سنة في وزارة دفاع النظام، و52 سنة في السلك العسكري. تقاعد وتسلّم، من يد بشار الأسد، وسام أمية ذا العقد، «تقديراً لخدماته وإخلاصه للوطن»، كما جاء في صحافة النظام الرسمية.
وهذا مجرد وسام واحد، لعلّه الأرفع في الواقع، بين 39 وساماً محلياً وعربياً وأجنبياً يتفاخر بها طلاس كلما رنّ ناقوس، حتى يكاد المرء يعجب كيف يطيق العماد حمل أثقالها على صدره! وللمرء، في مناسبة رحيله اليوم كما كانت المناسبة عند تقاعده، أن يدع جانباً حكاية «الخدمات» التي قدّمها طلاس (لأنه، في الواقع، لم يخدم سوى «الحركة التصحيحية» وسيّدها وسيّده حافظ الأسد، بعد خدمة نفسه وآل بيته بالطبع)؛ مثلما يتوجب غضّ النظر عن «إخلاصه للوطن» (فهو، في هذه السجيّة الغائبة، لم يختلف عن سواه من رجالات السلطة: إخلاص لآل الأسد أصلاً وفروعاً أوّلاً، ثم الإخلاص للامتيازات الشخصية والنفوذ والنهب والمال والأعمال). لا الوطن شهده يقود معركة في ساحة قتال ضدّ العدوّ، ولا خدماته تجاوزت المؤلفات الفكرية والأدبية والعسكرية والنباتية العديدة، التي يعلم الله هويّات مؤلّفيها!
والحال أنّ تقاعد «العماد» كان حدثاً فارغاً من المعنى، خالياً من الدلالة، باهتاً، مفتقراً إلى أية قيمة؛ سواء على صعيد تركيبة الهرم القيادي في جيش النظام، أو على صعيد توازنات مراكز القوى، أو حتى ضمن ألعاب الكراسي الموسيقية التي تعاقبت في صفوف «الحرس القديم» بعد وفاة الأسد الأب (جنرالات من «عظم الرقبة» في هيكل النظام، أمثال علي دوبا وعلي حيدر وعلي أصلان وعلي الصالح وحكمت الشهابي، أو شخصيات مدنية مثل عبد الحليم خدام ومحمد حيدر). صحيح أنّ طلاس كان جزءاً من تركيبة ذلك الحرس، الذي يمارس الكثير من السلطة والتسلّط في سوريا، خمس سنوات على الأقلّ في عهد الأسد الابن؛ وأنه كان بين أبرز الأحياء الذين تبقّوا من المجموعة العسكرية التي نفّذت «الحركة التصحيحية» تحت قيادة الأسد، سنة 1970، أو كان آخر هؤلاء عملياً بعد تغييب العماد حكمت الشهابي عن الساحة السورية.
وفي مطلع العام 1999، ضمن سياقات ترتيب الابن للخلافة، أصدر الأسد الأب مرسوماً يمدّد فيه سنّ وزير الدفاع ورئيس الأركان من 67 إلى 70 سنة، وذلك للإبقاء على طلاس، وكذلك على أصلان رئيس الأركان آنذاك. وفي أواسط العام 2001، أي قبل أن يبلغ طلاس السبعين، أصدر الأسد الابن مرسوماً بالتمديد له سنتين. ومن الإنصاف أن نصدّق الأقوال التي راجت في دمشق عند ذيوع نبأ تقاعد طلاس، والتي أفادت بأنه سوف يواصل مهامه كوزير دفاع مدني. في عبارة أخرى، تقاعد الرجل عن طيب خاطر، ولم تجرِ إحالته على التقاعد كما روّج المروّجون، يومذاك، لحكاية «النوايا الإصلاحية» عند «الرئيس الشابّ».
وأمّا موقع هذا «العماد» المتقاعد، فقد كان يشير إلى أنه لم يفلح أبداً في الصعود أعلى من الموقع الذي أراده له آل الأسد منذ عام 1971: وزير دفاع مزمن، ثابت مقيم، لا حول له ولا طول. ذلك فسّر انصراف هذا العسكري العتيق، الذي تثقل الأوسمة والنياشين صدره، إلى هوايات عديدة غير عسكرية، أو منافية بطبيعتها لمزاج جنرال شرق أوسطي؛ كأن يقرض الشعر، أو يجمع مخدّات طُبعت عليها شفاه الحسان، أو يخوض في الأدب، أو يدلي بدلوه في قضية سلمان رشدي و»الآيات الشيطانية»، أو يعكف على تطوير الخصائص المورفولوجية لزهرة الخزامي فيصبح اسمها على يديه: الخزامى الأسدية Tulipa Asadiana!
وكان مرجحاً وجلياً، كما أشرنا في أعقاب رحيل الأسد الأب، أنّ طلاس لن يفلح في مغادرة موقعه في عهد الأسد الابن أيضاً. ورغم تسليط الأضواء عليه، وعلى نجله المدني فراس، ونجله الثاني العسكري مناف، بعد وفاة الأسد مباشرة، وفي سياق إحاطة الوريث بأكبر عدد ممكن من رجالات المورِّث الراحل؛ فإنّ طلاس عاد سريعاً إلى الموقع الذي ظلّ فيه دائماً وأبداً: يغيب كلّ الوقت عن الساحة، ولا يظهر عملياً إلا لكي يفجّر قنبلة لفظية من نوع ما: تصريح هنا ضدّ زيد، شتائم مقذعة هناك ضدّ عمرو… هذه كانت فضيلته الكبرى، والوحيدة يعلم الله، في المعمار الأمني والعسكري والسياسي المعقد الذي شيّده الأسد الأب طبقة طبقة، سنة بعد أخرى، فريقاً بعد فريق.
وحين يتوجّب إطلاق طرف خيط للحكمة السورية الفعلية، حول أمر حرج وحساس تضمره السلطة وليس من مصلحتها أن تقوله علانية؛ فإنّ «العماد» هو خير الناطقين و… أذربهم لساناً أيضاً. والسيناريو الذي يعقب ممارسة العماد لهذه الفضيلة بات مكروراً معاداً: صمت رسمي مطبق، تنصّل مباشر أو غير مباشر، وارتياح ضمني لهذا النوع الطريف من «فشّة الخلق».
أبرز الأمثلة ما حدث في عام 1984، خلال مقابلة «دير شبيغل» ذاتها، حين كان طلاس أوّل من أماط اللثام عن الأسباب الحقيقية وراء وجود رفعت الأسد خارج البلاد؛ إذْ صرّح أنّ الأخير موجود في جنيف لأنه شخص غير مرغوب فيه Persona non grata. المثال الثاني أن طلاس كان أوّل مسؤول رفيع يتحدّث، منذ العام 1994، عن نجل الرئاسة، بشار، بوصفه خير خلف لأخيه القتيل باسل؛ وخير خلف للأمّة بأسرها، استطراداً. المثال الثالث، والأشهر لأنه الأقذع لغة، كان لجوء طلاس إلى كيل الشتائم البذيئة للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، معتبراً أنّ الأخير «إبن ستين ألف شر.»…!
ويبقى أنّ انقلاب الجنرالات إلى أيّة مهنة أخرى غير الحروب أمر لا يحمد التاريخ عقباه، بصفة عامة؛ حتى أنّ في وسعنا أن نردّ الكثير من مآسي الإنسانية، القديمة والوسطى والحديثة، إلى تلك الحالة الخاصة من تيه الجنرالات بين ماضي الخوذة العسكرية وحاضر البزّة المدنية، بين بندقية المحارب وخطاب السياسي، وبين احتراف المناورة التكتيكية وهواية اللعب الستراتيجي. إلا طلاس، في المثال الأبرز قطعاً: وزير دفاع طيلة 32 سنة، لكنه لم يكن يوماً في عير الدفاع، ولا في نفير الهجوم، وصرف الكثير من صحو أيامه ومنامه بين توقيع أحكام الإعدام وأرق المخدات.
وكان بهجت سليمان، اللواء المتقاعد في المخابرات العامة وآخر سفراء النظام السوري في الأردن، قد نعى «العماد» هكذا: «مصطفى طلاس في ذمة لله بعد أن قضى حياة فلوكلورية على الصعيدين العام والخاص»؛ وكأنّ الأوّل قضى، على الصعيدين إياهما، حياة أقلّ فولكلورية من الثاني، في جانب الولاء والخضوع والخنوع؛ أو أقلّ بطشاً وإراقة دماء…
المصدر : القدس العربي