تمارس روسيا دورها في الصراع السوري، باعتبارها صاحبة صلاحيات مطلقة، وتتصرّف وكأنها انتزعت كامل القرار من النظام، الذي يعتبرها “حليفته”، على الرغم من محاولات إيران المستمرة زعزة هذه الثقة الروسية، سواء من تصريحات رسمية، تفيد أنها غير معنيةٍ بالاتفاقات التي يبرمها الجانب الروسي مع الأميركي، أو عبر تحركاتٍ لقواتها أو المليشيات “الشيعية” التابعة لها، كحزب الله اللبناني وعصائب الحق وكتائب أبو الفضل العباس وألوية زينبيون وفاطميون العراقية والأفغانية وغيرهم، على الأرض.
ويظهر من ذلك أن موسكو تتابع تركيب قطع اللوحة، بحسب المشهد الذي يعزّز حضورها دولة عظمى شريكة للولايات المتحدة الأميركية، وإنْ بنسبةٍ أقل من النصف، وتوضّح دورها في سورية للشعب الروسي، وللمنظومة الدولية، وللسوريين، من خلال حجم التلاعب في هذا الصراع، وقدرتها على تغيير مواقع كل اللاعبين فيه، سواء من السوريين أو من الدول المتصارعة على سورية، وخصوصاً إيران وتركيا.
منذ دخولها رسمياً إلى حيز العمل الميداني في الصراع على سورية، في العام 2015، استطاعت روسيا أن تصل بالحرب إلى أقصى درجات قسوتها، حيث استباح طيرانها كل المحرّمات، وكل ما استعصى سابقاً على النظام ومن يسانده (إيران ومليشياتها)، بحيث تمكّنت من رسم خريطة جديدة للصراع، بإعادة تموضع صداقاتها وعداواتها. هكذا، فبعد وقوفها على حافة الحرب مع تركيا، استدارت لتعقد صفقة صداقةٍ معها، على حساب الموقف التركي من استراتيجية “تحرير” المعارضة للمدن السورية، كما أعطت لإيران أدواراً بأحجام مختلفة، بدأت بإطلاق يدها في مناطق الريف الدمشقي، وانتهت إلى إخراجها من المنطقة الجنوبية لدمشق، درعا والقنيطرة والسويداء، حسب الاتفاق الروسي الأميركي الأخير، في وقتٍ استرجعت فيه حلب للنظام، وشهدت تهجير السكان والتغيير الديمغرافي الذي أشرفت عليه إيران، من حمص حتى ريف إدلب، مروراً بريف دمشق المجاور للحدود اللبنانية.
وقد تابعت روسيا، باهتمام ملحوظ، خلافات المعارضة البينيّة، وتمكّنت من دعم مجموعات منها، على حساب تصغير أدوار كيانات الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، والهيئة العليا للمفاوضات، منذ جولة مفاوضات جنيف 4 حتى جنيف 7، التي انتهت أخيراً، بنتائج غير مرئية للمعارضة (الهيئة العليا للتفاوض) التي أعلنت أن لا تقدم فيها، بينما خرجت موسكو من هذه الجولة بعدة “انتصارات”:
أول هذه “الانتصارات” أنها فرضت بشكلٍ لا يقبل الشك أن الطريق إلى جنيف يبدأ من الدور الروسي الذي سمحت به الإدارة الأميركية بتصريحاتها عن أن مصير الأسد، وبالتالي، غدا مصير مطالب الثورة السورية بيد روسيا، أيضاً، سواء كانت روسيا موجودة على طاولة مفاوضات الأردن (اتفاق الجنوب)، أو في جولات أستانة، أو عبر وفد النظام للتفاوض في جنيف.
وقاربت روسيا أحجام المعارضات السورية من بعضها بعضاً، وإن كثر عدد وفد الهيئة العليا للتفاوض، إلا أن فعلها تضاءل، وأصبح أقل تأثيراً حتى إعلامياً، وبدأ السوريون يتابعون تصريحات منصّتي موسكو والقاهرة، لأنهما الأقرب إلى واقع الحدث على الأرض، وفي غرف التفاوض بين الوسيط الأممي من جهة وبينهم، وبين الوسيط مع وفد النظام من جهة ثانية، وهذا يعني أن رفض “الهيئة العليا للتفاوض” إشراك هاتين المنصتين سابقاً، وقبولها بهما اليوم، على الرغم من “المغمغات” في التصريحات حول ذلك، هو إقرار من الهيئة بواقعية مطالب المنصتين، أو بتنازل الهيئة عن مطالبها السابقة التي اشترطتها للشراكة مع غيرها من المعارضات، وهو الاحتمال الأكبر.
إضافة إلى ما ذكرت، أكدت موسكو عبر هذه الجولة أن كل ما ترفضه المعارضة (الهيئة العليا) في جولةٍ ما تقبله في جولاتٍ لاحقة، ولعل الحديث عن السلال الأربع (الحكم ـ الدستور ـ الانتخابات ـ محاربة الإرهاب) خير دليل على ذلك، إضافة إلى كل ما كانت المعارضة ترفضه، بدءاً من بيان جنيف، وحتى انسحابها من جنيف 4، وما تلا ذلك من خسائر بشرية، وفي مساحات المعارضة، وفي مطالبها وأهدافها.
وفي كل الأحوال، نجحت موسكو، ومن خلال ما سميت الجلسات التقنية، في استدراج “الهيئة العليا للتفاوض” لنقل خلافات وفدها الفكرية المخفية حول رؤيتها لسورية المستقبل من الخفاء إلى العلن، عبر رفض تيارات أيديولوجية معينة لفكرة المشروع الديمقراطي في بناء مستقبل سورية، وهو ما تجلى في حربٍ إعلامية وشعبية، شنّت على الدكتورة بسمة قضماني، لا تهدف منها فقط إزاحة امرأة علمانية من وفد التفاوض، بقدر ما تهدف، أيضاً، إلى إزاحة فكرة المشروع الديمقراطي من أذهان من يريد تمثيل الهيئة العليا للتفاوض، منعاً لتداوله على طاولة التفاوض، وبالتالي إنهاء فكرة التقارب مع المنصّات التي تعتبر الديمقراطية أساساً لبناء سورية الجديدة، ومنطلقاً لأي تقاربٍ حقيقيٍّ بين المنصّات، بغض النظر عن رأيي بهذه المنصة أو تلك.
أخيراً، تفاوض موسكو باسم النظام وليس عنه، في المحطات التي تقرّر مستقبل سورية فعلياً، وهو (النظام) عبر وفده الذي يتمثل في مؤتمر جنيف، ليس إلا صورة إعلامية ترغب من خلالها موسكو بإقناع العالم بوجوده، بينما هي تمارس دورها وريثاً لأسدٍ فقد قدرته على الدفاع عن نفسه، وعن غيره ممن في زمرته، وهذا هو معنى “الأسد الميت”، أو الآيل إلى الموت، الذي تحتاجه موسكو لتحكم باسمه، وتفاوض العالم من خلال جثته، وتضيف إليه معارضةً مهزومة، لم تستطع حماية تضحيات شعبها، من أجل سورية ديمقراطية، تضع حقوق المواطنة أولاً، بينما تبحث معارضتها في ما يبعد هذا الحق عن السوريين، تحت شعارات الأيديولوجيات التي تحكمها.
هزيمة المعارضة هنا، وليس فقط في حلب أو غيرها. هزيمتها هنا، وليس فقط على طاولة المفاوضات. وفي المحصلة، لا تعني هزيمة المعارضة هزيمة المواطنين السوريين الذين نادوا بالحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية، وبسورية لكل السوريين، وإنما هي هزيمة فقط لكل من فقد بوصلته، ومشى وفقاً لأجندةٍ لم تكن يوماً بين مطالب الثورة، عندما كانت ملكاً للسوريين فقط.
المصدر : العربي الجديد