في الأيام الأخيرة، خرج أكثر من معارض سوري ليطالب هيئات المعارضة بمصارحة السوريين في شأن ما يُطرح عليها. وإذا كانت المطالبة مستغربة أصلاً، على افتراض أن تكون المصارحة موجودة ومستمرة، فإنها أيضاً نافلة لجهة معرفة النسبة العظمى من متابعي الشأن السوري بالتوجهات الدولية والإقليمية، أحياناً قبل وصولها على شكل خلاصات ناجزة، أو توجهات ينبغي الالتزام بها، إلى هيئات المعارضة.
كان من المستغرب في هذا السياق ما أُعلن عن تفجير «منصة موسكو» اجتماعاً للهيئة العليا للمفاوضات، عُقد في الرياض الثلثاء الماضي، بسبب رفض المنصة أي حديث عن مصير بشار الأسد وإصرارها على اعتماد دستور 2012 الذي أقره بشار على مقاسه. إذ من السذاجة افتراض أن تُقدِم المنصة المذكورة، والتي يعبّر اسمها أفضل تعبير عن موقفها، على اجتراح أي موقف يختلف عما هو معروف عنها. أيضاً، من السذاجة واستغباء عموم السوريين احتساب تلك المنصة على المعارضة، وهي في الواقع لم تطرح يوماً أي موقف معارض إزاء سلطة بشار.
بالطبع لا حاجة إلى نباهة فائقة لمعرفة الغاية من لعبة المنصات، ومن ثم اعتبارها متساوية والقول بأن المعارضة مشتتة، وغير جاهزة للحل السياسي، مثلما هي غير مؤهلة لتكون بديلاً عن بشار. ولا حاجة إلى نباهة للاستدلال على عرقلة الحل السياسي المزعوم دولياً عندما كانت ميليشيات بشار في أسوأ وضع عسكري، بينما عاد الحماس إلى إنعاش المفاوضات عندما أصبحت تلك الميليشيات بحال أحسن. أخيراً، لن نحتاج نباهة لإدراك مفاعيل التفوق الروسي في الميدان ومحاولة البناء عليه سياسياً، فكما أُرغمت فصائل مسلحة على الرضوخ للإملاءات الدولية والإقليمية يجب على هيئات المعارضة الرضوخ وطيّ مطالب تنحي الزمرة المتهَمة من قبل العديد من المنظمات الدولية بارتكاب جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية.
مع دمج الاعتبارين السابقين ستقفز إلى الواجهة مطالبة المعارضة بالواقعية السياسية، فهي بموجب ما سبق خسرت الحرب، وككل الحروب سيكون للرابح اليد الطولى في التسوية. فوق ذلك، سيتم الخلط بين بين متطلبات الحرب أو خسارتها، مثل حقن دماء المدنيين وإيصال المساعدات الضرورية لهم وهذه مطالب أخلاقية، وبين التخلي عن مطالب أخلاقية لا تقل أهمية مثل محاكمة المجرمين الذين لم يتورعوا عن استخدام كافة أنواع الوحشية إزاء مجتمع الثورة بما في ذلك استخدام السلاح الكيماوي. هذه الواقعية الانتقائية تبرئ العصابة الحاكمة، ولو تحت وصفها بأنها عصابة ميؤوس من تحليها بأدنى اعتبار أخلاقي، فيصبح التسليم ببقاء المجرم عملاً أخلاقياً يفوق بضرورته محاكمته وردعه عن مواصلة جرائمه.
ثم إن الواقعية السياسية المزعومة تتعاطى مع الصراع السوري وفق الصورة النمطية للحروب الخارجية، أو وفق الصورة النمطية للحروب الأهلية التي تتقارب فيها أطراف الصراع من حيث امتلاك مصادر القوة والدعم، أو حيث لا تكون فيها الدولة أو السلطة طرفاً رئيسياً في الصراع. إغفال خصوصية الصراع السوري الحالي، بوصفه امتداداً لحرب الأسد على المجتمع السوري طوال نصف قرن، ينفي عن الواقعية صفتها، لتصبح قسراً للواقع على ما يريده أولئك الذين يقررون الآن بقاء تنظيم الأسد واستمراره في تلك الحرب، الخفية أحياناً والمدمرة أحياناً أخرى، والوحشية في جميع أطوارها.
مع ذلك لا بد من الإقرار بوجوب التحلي بواقعية سياسية، أول وأهم بند فيها وجود شبه إجماع دولي وإقليمي على بقاء بشار في السلطة مدة قد تطول أو تقصر بحسب تصور كل جهة. البند الثاني، الذي لا يقل أهمية على رغم كل ما يُشاع عن تهميش السوريين، هو وجود جهة سورية توقع التسوية المفروضة عليها منهيةً بذلك الصراع رسمياً. هذه الجهة ليست بالتأكيد على نمط «منصة موسكو»، فالمطلوب منهم مشاركة بشار، هم الذين رفعوا شعار إسقاطه وأصروا عليه، ومن دون مشاركتهم لن يكون معنى لمفهوم التسوية المطروح.
ثمة تفضيل متعدد الجهات لوجود معارضة تخضع للإملاءات، مع الحاجة أيضاً لوجودها، أي أن رفض هيئات معارضة أساسية التسوية المطروحة يفرغ الأخيرة من أية قيمة تخص طي صفحة الصراع. ضعف واستضعاف المعارضة مختلف تماماً عن قدرة الأطراف الخارجية على الاتفاق من دونها، وهي بلا شك تحوز القدرة نظرياً على الاتفاق كقوى احتلال أو وصاية صريحة.
استضعاف المعارضة وضعفها يصوَّران وكأن سببهما هزيمة عسكرية، بينما هما على نتيجة رغبة خارجية في إضعافها وفرض أمر واقع صنعه الخارج دعماً للنظام أو تواطؤاً مع داعميه. لا ينفي هذا وجود ضعف ذاتي مرده انعدام الثقة بين المعارضة وجمهور الثورة، ومرده الضعف السابق للمستوى السياسي قياساً إلى الفصائل المقاتلة، أو ما يمكن اختصاره بغياب جسد سياسي وعسكري متناسق، وباستناد هذا الجسد إلى مشروعية تمثيلية عالية. في المحصلة، تظهر المعارضة خارجية أو تابعة للفصائل العسكرية التي تعقد اتفاقاتها الخاصة وفق موقعها وداعميها، وخارجية بسبب فقدان ثقة السوريين بها، علماً بأن بعض الثقة الممنوح بدايةً قائم على مدى اعتراف الخارج بها.
يبقى أن مصدر القوة الوحيد للمعارضة، على رغم ضعفها واستضعافها، هو أن تقول «لا» للتسوية التي تنص على بقاء بشار. وإذا كانت هذه الإرادة الدولية فلتمضِ بمعزل عن مباركة ومشاركة جمهور الثورة أو من يدّعون تمثيلهم. هذه ليست أهم ورقة ضغط على الخارج فحسب، وإنما لتكون كذلك يتعين على قائليها فهم أنها الصلة الوحيدة التي تربطهم بتيار واسع رافض لبقاء المجرمين في السلطة، ورافض لأي تحول غير ديموقراطي، وخسارة الفصائل (التي لم يكن أغلبها في توافق مع قيم هذا التيار) لا تعني التراجع عن مطلب التغيير.
ولعل أقوى «لا» تقولها هذه المعارضة اليوم هي تنحيها ما دامت قد فشلت داخلياً، وفشلت مع مَن يُفترض أنهم أصدقاء الخارج الذين باتوا اليوم يدعمون فكرة بقاء بشار. فلا يكفي أن يكون وجود المعارضة ممانعاً لتوجه خارجي، إذا كانت قادرة حقاً وهذا محل شك كبير، وإنما ينبغي ألا يبقى وجودها معرقلاً لتبلور بديل عنها يفاوض الخارج من شرعية داخلية أوسع، وبوصف هذا الخارج المفاوض الفعلي في شأن رحيل النظام.
المصدر : الحياة