يقال إن الشغف المتزايد، عالمياً، بالمسابقات الأممية بكرة القدم، وأشهرها كأس العالم، يعود، في جانب منه، إلى استبدال المجتمعات الحديثة الرياضة بالحروب ميداناً لتنفيس المشاعر القومية، أو للحفاظ على حيوية العصبية القومية. وهو ما ينطبق، بأكثر ما ينطبق، على المجتمعات الأوروبية التي عافت الحروب وسيلةً لصراع المصالح بين الدول القومية، بعد ويلات حربين عالميتين، في القرن العشرين وحده، كلفتاها ملايين الضحايا والخراب والدمار.
ليس من قبيل المصادفات أن صاحب فكرة إنشاء مسابقة عالمية تتنافس فيها منتخبات الدول القومية هو الفرنسي جول ريميه، لما عرف عن الفرنسيين من نزعة قومية قوية، بخلاف دول أوروبية أخرى. وتتميز كرة القدم عن الألعاب الرياضية الأخرى، كما عن الإنجازات في ميادين العلم والثقافة والفن والاقتصاد، بأن لها نسقاً يشبه الحروب: فريقان (جيشان) يناضلان من أجل الفوز عن طريق «اختراق صفوف العدو» وإنزال الضربة به (تسجيل الهدف)، وينقسم الملعب إلى نصفين متساويين ينتهيان بالمرمى، في حين أن أداة اللعب (الكرة) هي بمثابة الطلقة الموجهة إلى دفاعات الخصم. وفي المسابقات الدولية يتم تصفية الخصم وإخراجه منها. وتعزز لغة الإعلام هذه السمة القومية، بالقول مثلاً إن «ألمانيا هزمت البرازيل» أو «انتصر الإيطاليون على الإنكليز» أو ما شابه ذلك من عبارات تؤجج مشاعر العزة القومية أو الإذلال القومي، بصورة متقابلة، لدى جمهور الفريقين «المتصارعين».
المنافسات الرياضية بين الأمم، وثيقة الصلة إذن بمفهوم الهوية الوطنية أو القومية، أكثر مما بالسلطة السياسية في بلد من البلدان. غير أن الأمر يختلف في الدول التي تحكمها أنظمة دكتاتورية تفتقد للشرعية، فتسعى إلى ملء هذا الفراغ بـ»إنجازات» تنسب دائماً إلى النظام، وبخاصة إلى الدكتاتور رأس النظام، وربما أهمها الإنجازات الرياضية التي ما كانت ممكنة لولا «رعاية» الدكتاتور المزعومة للرياضة، كما لكل ميادين الحياة في البلد. نعم، الرعاية وليس الاهتمام. فالدكتاتور راع يقود القطيع ويؤمن له المرعى ويحميه من الذئاب. وإذا كانت الانتصارات الرياضية، وغير الرياضية، تنسب لرأس النظام، فالهزائم تنسب للاعبين أو المدربين أو المجتمع «المتخلف» أو «الضعيف» أو «العاجز» أو «الفاسد» ككل. من الصعوبة بمكان، إذن، إحالة الفرق الوطنية، بإنجازاتها وإخفاقاتها، إلى هوية وطنية صرفة بعيداً عن السلطة السياسية في دولنا المبتلية بهذا النمط من الأنظمة غير الشرعية. بل تلعب الرياضة هنا دور محفز عصبية «وطنية» في خدمة الدكتاتور الذي هو «سيد الوطن» وأمه وأبوه كما في مثال النظام الأسدي، حيث معيار هذه الوطنية هو الولاء للنظام ورأسه، في حين أن عدم الولاء يساوي الخيانة الوطنية.
وتمس حاجة هذه الأنظمة إلى شد العصب الوطني المرادف للولاء، كلما تعلق الأمر بأخطار تهدد سيطرتها ودوامها. لذلك وصف رأس النظام الكيماوي في دمشق انتفاضة الأهالي في السلمية، في آذار/مارس 2011، بالمؤامرة الخارجية، في خطابه الأول الذي ألقاه، بعد أقل من أسبوعين على بدايتها. فحدد بذلك معياري الوطنية السورية وخيانتها بالولاء له والتمرد عليه، على التوالي.
شهدت صفوف جمهور الثورة السورية، مؤخراً، انقساماً حاداً حول الموقف من المنتخب السوري الذي يخوض تصفيات كأس العالم، في مباراتيه ضد منتخبي قطر وإيران على التوالي. فثمة من تحمسوا للفريق السوري بدعوى أنه منتخب سوريا وكل السوريين، ودعوا إلى الفصل بين الرياضة والسياسة؛ في حين اعتبر فريق آخر أنه منتخب نظام الأسد الذي أحرق البلد، وقالوا إنه لا يمكن فصل الرياضة، أو أي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة، عن السياسة في ظل نظام شمولي سيّسها جميعاً وربطها بنفسه.
والحال أن ما يمكن تسميته بهوية وطنية سورية، بعيداً عن مفهوم الولاء، لم توجد قط منذ نشوء الكيان السوري. فلم تمض إلا سنوات قليلة على ولادته إلا وكانت تتنازعها تيارات إيديولوجية وسياسية تنكر على الكيان الوليد صفة الوطن. هذه هي حال أبرز التيارات: من قومية عربية، وقومية سورية، وقومية كردية، وهوية إسلامية، وهوية إشتراكية أممية لدى التيار الشيوعي. وبموازاة هذه الهويات الإيديولوجية الطافحة خارج الجغرافيا الضيقة للكيان السوري، تم تكريس الهويات الصغرى دون الوطنية، قومية ودينية ومذهبية وجهوية، تفجرت جميعاً بعنف مهول بمناسبة اندلاع ثورة الحرية والكرامة في 2011. فبدا كما لو أنه لا يمكن الحفاظ على وحدة الكيان إلا بحبس مجتمعات متنافرة في قمقم نظام دكتاتوري شمولي يسحق المجتمع في كل واحد «متجانس»، الأمر الذي ينطبق على الحالة العراقية أيضاً. ليس هذا توصيفاً صحيحاً ولا نزيهاً، يجب أن نقول، بل هو الصورة التي تلائم ديمومة النظام السلالي الحاكم، كما «المجتمع الدولي» الشغوف بـ»الاستقرار».
كانت ثورة 2011، بالأحرى، فرصةً لولادة هوية وطنية سورية، للمرة الأولى في تاريخ الكيان السوري، سحقها النظام وأفلت كل العفاريت التي يمكن تخيلها من عقالها، خدمةً لشعاره «الأسد أو نحرق البلد». لا يمكننا الحديث، اليوم، عن رأي عام ثوري في الداخل المحتل من قبل النظام والاحتلالات الأخرى. بالمقابل يمكن رصد رأي عام ثوري للسوريين الموزعين بين مختلف المنافي، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. وبالنسبة لهؤلاء المشردين يمكن الحديث عن ملامح أولية لتشكيل هوية وطنية سورية، تحت ضغط أصناف الإذلال التي يتعرضون لها في كل مكان. لكنها هوية قائمة على الحنين أكثر مما هي هوية نضرة وحية. أشبه ما تكون بالهوية الفلسطينية في المنافي.
ومن جهة أخرى، تأتي «انتصارات» منتخب كرة القدم، وما رافقها من استثارة المشاعر الوطنية، في سياق توظيفها في إطار إعادة تعويم النظام الكيماوي من قبل المجتمع الدولي، مثلها في ذلك مثل عودة معرض دمشق الدولي إلى الانعقاد بعد سنوات من التوقف، ومثل التقارير الصحافية الغربية التي تتحدث عن «الحياة الطبيعية» في دمشق وغيرها من المدن، بموازاة تقدم قوات النظام المدعومة بالميليشيات الأجنبية نحو دير الزور. انتهت مباراة منتخب النظام مع منتخب إيران إلى التعادل، الأمر الذي جعل من احتمال تأهل الأول إلى نهائيات كأس العالم معلقاً بمباراتين إضافيتين فيما يسمى بالمصطلح الرسمي المعتمد بـ»الملحق». أليست هذه هي حال النظام الكيماوي أيضاً؟ فعملية إعادة تأهيله بحاجة أيضاً إلى «ملحق» لا يمكن ضمان نتائجه.
المصدر : القدس العربي