على بعد ثلاثة عشر كيلو متراً من بيت أهلي في المفرق، يقع أكبر مخيم للاجئين في الشرق الأوسط، هو مخيم الزعتري. أعرف هذه المنطقة من قبل. كانت مجرّد أرض صحراوية تمتد على مدى النظر، تتخللها تجمعات سكانية متناثرة لبدو الشمال الأردني. لا شيء يرتفع في تلك المنطقة. لا جبال. لا أبنية ملحوظة. لا أشجار. العراء في أشدّ أشكاله سفورا. يمكن لمن يدقق النظر أن يلحظ أعشاباً وشجيراتٍ صحروايةً قصيرة القامة تناضل في الصهد. تختزن ما تتمكن من التقاطه من ندى الليل، وتتمثَّله ببطء، إلى أن يأتي الشتاء بأمطار قليلة، قد تهطل دفعة واحدة ثم تحتجب.
لا أعرف، بالضبط، لِمَ اختيرت تلك الأرض لإقامة مخيمٍ لإيواء اللاجئين السوريين الفارّين من جحيم بشار الأسد، سوى أنها قريبة من محطة الزعتري التي تزود مدينة المفرق بالمياه الجوفية. هذا، في حد ذته، سبب وجيه. سبب آخر مهم، أيضاً، يتعلق بقربها من الحدود الأردنية السورية. مع تطور القتال في سورية، راحت رقعة المخيم بالاتساع، حتى بلغ عدد الذين يضمهم نحو 120 ألف لاجئ، وهو رقم يكاد يكون ضعف عدد سكان مدينة المفرق نفسها. فلم تعد هذه المدينة الصغيرة، الواقعة على تقاطع طرق تؤدي إلى سورية والعراق والسعودية، تتعرَّف إلى نفسها. صار هناك دفق بشري هائل، يتخللها ويحيط بها، يلهج بنبرات حورانية وبدوية وشامية، يختلط بعضها ببعض. وهذا لا جديد فيه تماماً. فالمفرق تضم، هي أيضا، بدواً من قبائل سورية استقرَّت فيها منذ زحف أعلام الثورة العربية الكبرى على الأردن، وفيها فلاحون أتوا من أرياف إربد الحورانية، بمن فيهم مسيحيو تلك المنطقة الزراعية التي لم ينقطع فيها الحرث والزرع، مذ كانت تسمى “أهراءات روما” (امتداداً إلى سهل حوران السوري)، ولاجئون من فلسطين، بل وليبيون جاؤوا مع رئيس بلديتها الأول، علي باشا عابدية، ونائبه محمد الأوجلي. وهذان من رهط كبير من الشخصيات العربية التي رافقت الأمير عبد الله، عندما استقر في شرقي الأردن، وبدأ في رسم ملامح كيانه السياسي. هذا الخليط، مع سكانها الأصليين من عشائر بني حسن، هو الذي شكَّل صورة المفرق في وعيي الأول.
بوسع من يزور منطقة الزعتري أن يلحظ عشرات آلاف الخيام والمنشآت المرافقة للجوء البشري. هناك حياة أخرى راحت تدبُّ وتتسع. حياة تنشأ، عادة، مع أي تجمع بشري مستقر، أو شبه مستقر: دكاكين، محطات وقود، كراجات سيارات، مطاعم، وطائفة أخرى من الأعمال التي تفيد من وجود المخيم – المدينة. لم أر في حياتي مخيماً بهذا الحجم والامتداد والأنفاس البشرية التي تؤثثه. رأيت نشوء مخيمات إيواء للنازحين من الضفة الغربية بعيد حرب حزيران/يونيو 67، لكنها لم تبلغ قط ما بلغه مخيم الزعتري. امَّحت، بمرور الوقت، تلك المخيمات “المؤقتة” وذابت في محيطها، أو تحولت أحياء وامتدادات للمدن التي قامت بالقرب منها.
في أزمنتنا هذه، صارت المخيمات سمةً للعصر مع انتشار الحروب الأهلية، الجوائح والمجاعات، قذف أنظمة الاستبداد بشرها إلى خارج الحدود لجعل البلاد التي تقبض على عنقها أكثر “انسجاماً”. المخيف في أمر هذه المخيمات أن تبقى. أن لا يعود الذين تركوا بيوتهم وأرضهم إلى ما تركوه، مرغمين، مرة أخرى. أليس هذا ما يخيف اللبنانيين الذين يضطربون على حبال الطائفية ومخاوف الديموغرافيا؟ فلا تبدو هناك نية لدى النظام السوري لإعادة من شرّدتهم دبابته وبراميله إلى مدنهم وقراهم. لكن الديموغرافيا لا تخيف الأردنيين. وربما لا تخطر على بالهم. ما يشغلهم أن يتخلى العالم تماماً عن اللاجئين السوريين: بشراً وأفقاً سياسياً. وهذا ما يحصل بالفعل. فمنذ عامين، أو أكثر، تقلص الاهتمام السياسي، والإغاثي بمأساة اللاجئين السوريين. كل ما قيل في اجتماعات الدول المانحة، وما لهجت به ألسن المندوبيين الدوليين تحت قبة الأمم المتحدة، لم يتحقق. يحتاج اللاجئون السوريون إلى “صنع” حياة كريمة بديلة، لكنهم يحتاجون أكثر إلى حل سياسي في بلادهم، فلا شيء أسوأ من حياة اللجوء. لا شيء أكثر هدراً للكرامة البشرية من أن تبدو “عالةً”، أو مشرّداً بلا وطن. وهذا، بالضبط، هو المعنى المُذلّ في أن تكون لاجئاً خارج بلادك، أو نازحاً داخلها.
مشكلة الأردن، البلد الفقير أصلاً في كل شيء، مع اللجوء السوري الكثيف، اقتصادية. لا شيء فيها من مخاوف الديموغرافيا. لا شيء فيها من الوطنيات والهويات الزائفة. السوريون سيعودون. ولكن حتى يحصل ذلك، على العرب، والعالم، جعل حياتهم في اللجوء كريمةً. لا شيء آخر.
المصدر : العربي الجديد
