مثل سورية، تاريخ طاعن بالمعرفة وبالوجع. امرأة طافحة بالأمومة وبالحب وبالأمل. وطبيبة تعرف تماماً كيف تعالج روح مريضها، وكيف تفهم مرضه وأوجاعه. ومناضلة حكمت عليها أحلامُها بكل هذا القهر، وحكمت عليها معرفتها وثقافتها بدخول بوابة النار، وحكم عليها حبُّها أحد أهم الأسماء السورية، أن تعيش العمر وهي تنتظر رجلاً وراء زنزانة، لكنها تعرف أنها تنتظر مفكراً، لا تسجن فكره كلُّ زنازين العالم. مثل سورية، تموت اليوم هناك في بلاد المنفى والبرد، بعيدة عن روح حمصها، وعن جدران بيتها وحياتها التي هدمت كاملة، وعن عشيقها الذي لم يزل يؤمن بأن الشعوب لا تموت.
إنها توأم سورية، الدكتورة أسماء الفيصل، زوجة رياض الترك التي رحلت في كندا تاركة أحلامها بين أيدينا، وتاركة لنا بلاداً بحزنٍ طازج، وموتٍ يعيش في كل زاوية، وأمنيات مؤجلة للحرية والحياة.
كانت أسماء الفيصل، في كل مراحلها، شخصية مميزة، تفوقت جداً طوال دراستها، وحصلت على معدلٍ عالٍ في الثانوية القسم العلمي، لتبدأ في دراسة الطب البشري، ولتصبح من أوائل النساء السوريات اللواتي دخلن هذا الفرع. ومع دراسة الطب، بدأت تتعرف على نفسها أكثر من خلال حجم مطالعاتها ومعارفها، لتدخل في معركة الحياة السياسية، ولتستوعب معنى الدكتاتورية التي تحكم الشعوب، وتقتل فيها الحياة. ومنذ تخرجت من كلية الطب البشري في جامعة دمشق في 1956، بدأت حياتها المهنية وحياتها السياسية، فقد كانت ناشطةً سياسية منذ الخمسينيات، وشاركت في المظاهرات وفي النضال ضد حكم الشيشكلي، وثم ضد الدولة البوليسية في فترة الوحدة. وتزوجت من رياض الترك ابن العم في 1965، بعد أربع سنوات من خروجه من سجن جمال عبد الناصر.
في 1980، وبعد إعلان تشكيل التجمع الوطني الديمقراطي الذي انطوت فيه خمسة أحزاب وطنية سورية، اعتقلت الدكتورة أسماء الفيصل لنشاطها السياسي. ويومها كان النظام قد حسم أمره في سحق هذا التحرك، وفي اعتقال أغلب رموزه وقياداته، وكان شديد الاستنفار من أجل اعتقال رياض الترك الذي كان متخفياً في العمل السري منذ فترة طويلة.
بعد شهور، اعتقل رياض الترك في دمشق في مداهمة مقرٍّ سرّي للحزب. وبقي في السجن 17 عاماً وأربعة أشهر، وبقيت الابنتان مع أقربائهم، محرومتين من والديهما سنتين ونصف السنة. وهي الفترة التي أمضتها الدكتورة أسماء في الاعتقال، متنقلة من فرع التحقيق العسكري إلى سجن دوما النسائي. وقد وُضعت في مهجع مع المعتقلات الإسلاميات فيه، وساعدت في ولادة واحدة من الأمهات السجينات في السجن.
خرجت بعد سنتين، وانتظرت أكثر من عشر سنوات قبل أن تعرف إذا كان زوجها المعتقل حياً أم ميتاً، وقبل أن يُسمح لها بزيارته مرةً كل سنة. وانتظرت الدكتورة أسماء 17عاماً ونصف العام، قبل أن يُطلق سراح رياض الترك، ويعود إلى بيته، وإلى الحياة السياسية المعارضة، والى التحدّي في ذروة جبروت حافظ الأسد. ولكن ما هي إلا سنوات قليلة، حتى أودع الأسد الابن رياض الترك في خضم حراك ربيع دمشق في العام 2001، السجن عامين ونصف العام.
دخل رياض الترك في العمل السرّي من جديد، في الفترة التي سبقت اندلاع الثورة السورية، وظلت الدكتورة أسماء مواظبة على لقائه سراً. وفي العام 2012 غادرت مضطرة، بيتها في جورة الشياح في حمص إلى حلب، ثم إلى كندا إلى جانب ابنتها نسرين، ولم تمض شهور حتى نهبت عصابات الشبيحة البيت وحرقت ما فيه من أثاث وكتب وذكريات وصور شخصية، وبقيت تنتظر أن تعود إلى سورية خالية من حكم الأسد.
ولعل أجمل وأرق ما قالته يوماً أسماء الفيصل وصفُها الطفل الذي يمثل كل سورية، وكانت قد ساعدت على ولادته، حين قالت إن هذا الطفل كبر، في سنواته الأولى، داخل مهجع الاعتقال مع بقية النساء، حتى إنه تطبع بطباعهن. ولا أنسى كيف أنه كان يقلد بقية النساء، ويسارع لوضع الغطاء على رأسه، كلما دخل شرطي أو رجل أمن إلى المهجع. وكانت قمة السعادة له عندما رأى أول مرة في حياته من بوابة السجن حماراً كان يأكل النفايات، بالقرب من سور السجن. وبقي الطفل شهوراً يقلد مشية الحمار.
اليوم، ترحل هذه القامة السورية، تاركة وراءها قلب رياض الترك مكسوراً، وقلبي ابنتيها ممزّقين، وتاركة لنا حملاً ثقيلاً، لعلنا نترك يوماً لأطفال سورية ما يستحق ضحكاتهم.
المصدر : العربي الجديد