مقالات

عماد العبار – حول نقد إعلام الهزيمة

الصحافة الصفراء ليست اختراعاً عربياً، بل هي اختراع أمريكي أولاً، ومن باب ذكر الحقيقة كاملة، علينا أن نذكر أن الصحافة نفسها ليست اختراعاً عربياً أصلاً، فالتخلف العربي مسألة لا نجادل فيها، لكن سنجادل مطولاً كل من يحاول إلصاق الباطل بالعرب والحق بغيرهم، ولو جاء ذلك من باب (أو تحت ستار) النقد الذاتي.

ظهر المصطلح في أمريكا، نيويورك تحديداً، عام 1896، على أثر التنافس بين صحيفتي «نيويورك وورلد» و»نيويورك جورنال- أمريكان»، حيث استخدمت الصحيفة الأولى أسلوب الترويج والدعاية المكثفة لابتلاع السوق من خلال استخدام رسومات لشخصية طفل أصفر اللون اسمه ميكي دوغان، ثم استطاعت الصحيفة الثانية شراء مصمم الرسوم، ما أشعل حرباً إعلامية بين الصحيفتين، اعتمدت على الرسوم والعناوين المثيرة، بحيث كادت أن تبتلع الرسوم المحتوى في الصحيفتين على حساب المضمون والموضوعية، فأطلق النقاد على هذا النوع من الصحافة: «صحافة الطفل الأصفر» أو «الصحافة الصفراء».

ويمكن للقارئ هنا أن يلاحظ أن هذا النمط من الصحافة لم ينشأ في الأصل في دول الشمولية والحزب الواحد، وإنما داخل دول تعددية وفي جو تنافسي، بعكس ما قد يتخيل المرء للوهلة الأولى حين يسمع بعبارة «صحافة صفراء».

أما البروباغندا فهي قد تكون قديمة قدم البشرية، كونها استخدمت لأغراض سياسية ودينية واقتصادية، وإن كان تحت مسميات متعددة، كالترويج والتبشير والتعبئة والدعاية والتحريض. غير أنها استخدمت بالحرف وبصورة احترافية مع تطور وسائل الإعلام والتكنولوجيا في الغرب، حيث أنشئ مجمع خاص للبروباغندا في روما عام 1622 لنشر التعاليم الكاثوليكية في عهد البابا غريغوري الخامس عشر، ومنذ ذلك الحين لم يتوقف استخدامها، بل تطورت الأساليب مع تطور الإعلام وتقدم التقنية، فبلغت البروباغندا ذروتها أثناء الحرب العالمية الأولى، حين عملت كل القوى المتصارعة، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا، على ضخ معلومات عن الخصوم، بعضها صحيح مبالغ فيه، وبعضها مشوه، واستمر الأمر مع الحرب العالمية الثانية، فكانت سلاحا فتاكا في أيدي المتحاربين، لاسيما النازيين والشيوعيين.

عربياً، دأب النقاد والمثقفون على نقد الإعلام الناصري، الذي كان سلاحاً استخدمه الراحل جمال عبد الناصر في جميع معاركه السياسية والعسكرية، بل حتى في المعارك الاقتصادية والاجتماعية، حتى أن نقدهم بعد مرور ما يزيد عن النصف قرن على تجربة ذلك الإعلام بات مبالغاً فيه، ويضمر عداوات أيديولوجية قديمة أو اصطفافات أيديولوجية حديثة تستوجب إعلان البراءة من تاريخ سابق أكثر من أن يوحي برغبة صادقة في نقد السياسة الإعلامية في تلك الفترة.

علينا هنا أن نركز على ثلاث نقاط أساسية وهي:

أولاً: مشروعية الحرب الإعلامية كونها جزءا من الحرب العسكرية، فضلاً عن كونها سلاحاً لا غنى عنه في عملية النهضة (والنهضة في الدول الخاضعة لتبعية أو استعمار غير مباشر، هي فعلياً حرب غير عسكرية أيضاً بمعنى من المعاني).. وإن كانت الحرب الإعلامية جزءا من عملية النهضة في الحالة التي نتكلم عنها، فهي قد تساهم في كثير من الحالات في دفع الحرب العسكرية (بعكس ما يظن البعض)، وهذا ما أشار إليه أحد الملحقين العسكريين السوفييت في مصر في الستينيات حين سئل عن رأيه في التصعيد الذي مارسه الإعلام المصري.. ومن ناحية أخرى، يمكن النظر إلى الإعلام على أنه جزء من عملية التحضير للحرب أو إعلان التعبئة (وهذا ما يعتقده معظم الناس وما يقوله جميع النقاد تقريباً)..

وحين نتحدث عن مشروعية الحرب الإعلامية فلا نقصد مشروعية التضليل، ولا مشروعية تشويه الخصم وشيطنته أيضاً، وإنما مشروعية نشر الحماس واستعراض القوة أو المبالغة في تقديرها، أو المبالغة في الاستهانة المقصودة بقدرات الخصم، وفي ذلك تمرير رسائل توحي بالقوة والاستعداد وغياب الخوف، كمحاولة لكسب الوقت اللازم لتمرير مشروع، أو لتأخير حصول ضربة متوقعة.. وبهذا يكون العدو هو المستهدف في هذه الحرب وليس الوعي المجتمعي، علماً بأن الأمور قد تخرج عن السيطرة في كثير من الأحيان، ومن الوارد أن يحدث التضليل المزدوج بشكل غير مقصود.

ثانياً: الحرب الإعلامية سلاح ذو حدين، وهي لا تختلف بذلك عن الحرب العسكرية أو حتى عن عملية النهضة التي قد تجر على البلد الطامح بها الكوارث إذا تصادمت مع مصالح دول كبرى، ولا يختلف ذلك عن الثورة أيضاً أو أي عملية تغيير جذرية.

ثالثاً: لا يوجد نظام سياسي حالياً يجد نفسه في دائرة الخطر، إلا ويلجأ إلى حرب إعلامية بشكل من الأشكال، للقارئ أن ينظر اليوم إلى ما تفعله الصحف ووسائل الإعلام الممولة برؤوس أموال ذات مصالح مختلفة، سواء تلك الممولة خليجياً أو إيرانياً أو مصرياً أو تركياً، بل حتى الثورات الشعبية التي اندلعت في وجه أنظمة تمارس البروباغندا لجأت إلى حروب إعلامية على طريقتها، ووفق إمكانياتها المحدودة.. وهذه الحروب الإعلامية المختلفة التي نراها الآن تتراوح ما بين الاستعراض المبالغ فيه للقوة، أو الهجوم الشرس على الخصم ومحاولة تصفيته معنوياً، وكثير منها وقع في البروباغندا المضللة، فمارس بعضها أساليب غير شريفة في صراعها مع الآخر.

انطلاقاً من النقاط السابقة نقول إن من الضروري إجراء نقد إيجابي للحروب الإعلامية التي أثيرت وتثار في كل زمان، على ألا يتحول النقد إلى بروباغندا جديدة، ويتحول النقد إلى بروباغندا، حين يبالغ في التركيز على تجربة معينة بمعزل عن سياقها التاريخي والظروف التي تحيط بها، وحين يصبح نقد إعلام الهزيمة «إعلامنا» يحتل الساحة الثقافية ويغيب عنها مواجهة إعلام الخصم.

من المثير للاهتمام هذا التركيز على ما أطلق عليه «إعلام النكسة» بعد مرور نصف قرن على هزيمة 1967، حيث أصبح انفصال الإعلام عن لحظة الهزيمة مثاراً للانتقاد والتهكم بين النقاد والناشطين المعارضين لحكم الرئيس عبد الناصر. وإذا كان النقد كما أسلفنا ضرورياً، فإن خروجه عن نطاق المألوف وتصاعد حدته وتناسبه طرداً مع الوقت الذي مرّ على الهزيمة يعطينا مؤشراً على أنه يتجاوز النقد المنطقي ليعكس عداوة أيديولوجية لا أجدها مبررة في زمانها، فضلاً عن كونها أصبحت خارج السياق بعد مرور الزمن.. ويصبح الأمر مثاراً للاستغراب الشديد حين يضخم بعض العرب تلك العيوب الإعلامية، بدون أن تكون لديهم فكرة وافية عن طبيعة الحرب الإعلامية المضادة غير الشريفة التي مارستها دول العدوان.

تعرض العرب في تلك الفترة إلى بروباغندا مارستها بعض الدول الغربية ضدهم وضد قياداتهم، ووصلت إلى مرحلة الشيطنة الكاذبة والتشويه الكامل في مراحل الحرب، ولا يمكن مقارنة إعلام العرببإعلام خصومهم في ذلك الوقت، ليس منذ أيام النكسة وحسب، بل منذ أول محاولة لتحرير القرار العربي من هيمنة الشركات الامبريالية البريطانية والفرنسية؛ فأثناء تحضيره للشعب الفرنسي أثناء العدوان الثلاثي على مصر، ضخ الإعلام الفرنسي الأكاذيب المتناسبة مع حجم رغبته وحاجته، ليس لاستعادة قناة السويس وحسب، بل لاجتثاث السلطة الناصرية وإذلال ضباطها أيضاً. وبلغ استخفاف الإعلام بعقول الفرنسيين حد دمج خطابات الراحل عبد الناصر مع خطابات هتلر، والترويج لفكرة أن ناصر كان يشكل، بحسب الخبير بالتاريخ العسكري الكولونيل باول كوجاك، خطراً وجودياً على اليهود و(الكاثوليك المصريين). ولم تجد هذه البروباغندا مع سخفها أي ممانعة من الرأي العام الفرنسي، مع العلم أن نظام عبد الناصر لم يكن يسعى لا إلى احتلال فرنسا، ولا إلى احتلال أي بلد آخر، أما هتلر الذي خُوّف به الفرنسيون فإنه احتل بلدهم بمساعدة كثير من الفرنسيين! كما أنه لا المد الناصري ولا الشيوعية ولا البعثية ولا مجمل التيارات السياسية الإسلامية أو القومية، كانت تشكل في ذلك الوقت خطراً على اليهود كطائفة دينية، ولم يتعد الأمر أكثر من ردات فعل كلامية سياسية على الاستيطان الصهيوني الإحلالي المدعوم من قوى امبريالية، في حين أن التهديد الوجودي الحقيقي عانى منه اليهودي حين كان مواطناً مسالماً في أوروبا نفسها، وفي فرنسا تحديدا أكثر من غيرها حيث كان يتم تبليغ سلطات الاحتلال النازي الألماني عن اليهود الفرنسيين ليتم سوقهم إلى المحرقة.. كثير من الفرنسيين فعلوا ذلك بالمناسبة.

وليس غريباً أن تمر هذه البروباغندا بدون أي نقد ومراجعة على المستوى الفرنسي، على الرغم من فشل العدوان الفرنسي في تحقيق أهدافه، فالرأي العام الفرنسي كان متفقاً مع ما يبثه إعلامه، وكان الصراخ في الإعلام على قدر الوجع والهزيمة الفرنسية في السويس والجزائر معاً.. لكن الغريب هذا الغياب في الوعي العربي والانشغال بالعداوات الأيديولوجية، بحيث بات نقد إخفاقات الأنظمة المحسوبة يخفي التشفّي تحت ستار نقد الذات.

نقد إعلام الهزيمة لا يتحلى بأي موضوعية، ليس فقط لأنه مستمر بالتصاعد كلما مر الزمن، وكلما ظهرت الحاجة لتصفية القضية الفلسطينية، ومعها الحاجة لتعميم حالة اليأس من فكرة استعادة الحقوق، وليس فقط لأنه لا يضع هذا الإعلام في مقارنة مع ما كان يتعرض له العرب من تشويه مقابل، بل لأنه يتجاهل أيضاً الدور الإيجابي الذي أداه هذا الإعلام في بعض الجولات المصيرية، فلا يأتي الناقدون لإعلام هزيمة يونيو/حزيران على دور هذا الإعلام جنباً إلى جنب مع الإعلام العربي بإمكانياته المحدودة في الصمود أمام القوى الإمبريالية الكبرى في عام 1956، كما لا يأتون على ذكر دوره ــ دور إذاعة صوت العرب بشكل خاص ـ في دعم ثورة التحرير في الجزائر، وقد أشار إلى هذا الدور بشكل واضح الراحل أحمد بن بلّة في شهادته على الثورة الجزائرية.

يحتاج إعلام الهزيمة إلى نقد من جوانب عدّة، لكن ليس نقدا يقوم على التشفّي من نظام أو مرحلة، وليس نقدا يتجاهل القضايا الأساسية فيصبح هدفاً بحد ذاته، وإنما نقد المعني بالهزيمة أولاً وأخيراً، ونقد الخبير بالحرب وظروفها، فعدوان يونيو لم يؤد إلى شلل عسكري وحسب، بل سبب صدمة على مستوى الاتصال والمعلومات والإعلام أيضاً، وهذا يذكّر بما حصل مع قوة عظمى قبل عقدين من ذلك التاريخ، حين أدى الغزو الألماني للاتحاد السوفييتي في 22 يونيو عام 1941 إلى حدوث صدمة إعلامية تبعها تخبط لم يسبق له مثيل، فمع أن السوفييت كانوا يتوقعون حرباً وشيكة في أي لحظة، ومع أن التقارير الاستخباراتية التي وضعت أمام ستالين كانت تشير بكل وضوح إلى قرب بدء الهجوم، إلا أن الضربة الأولى المباغتة، ومعها عامل الخديعة، أفقدا القوة العظمى توازنها، إلى درجة أن المواطنين السوفييت في داخل البلاد لم يعلموا من الإذاعة ببدء الحرب إلا بعد مرور ثماني ساعات من بدئها، أي بعد أن كانت المدن الحدودية قد تم اجتياحها وتدميرها بالفعل، ولم يصدر أي تصريح رسمي إلا في اليوم التالي، حيث خاطب وزير الخارجية المواطنين، أما رئيس الدولة فلم يوجه أي خطاب لشعبه حتى يوم 3 يوليو، اي بعد عشرة أيام من حصول الكارثة!

لا يمكن بتصوري حصر إعلام تلك المرحلة بالهزيمة، إلا إذا اختصرنا فترة ربع قرن من الصراع بالهزيمة وحدها، وهذا يفتقد إلى المبرر التاريخي بتصوري، غير أن النقد المنصف مطلوب، شرط ألا ينسى الناقد أن الأولى في هذه المرحلة مواجهة البروباغندا التي تسعى إلى تصفية هذه الشعوب معنوياً من خلال تشويه كل محاولة تقوم بها لاستعادة القرار والسيادة، وتصويرها كما لو أنها جماعات بشرية غير سوية لا تفرّخ غير الدواعش والديكتاتوريات والإرهاب.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى