. إذن، لولا الحملة العالمية ضد التحرّش الجنسي، “أنا أيضا” (Me Too)، لربما ما بادرت ثلاث نساءٍ من الأعضاء الـ 18 في الأكاديمية السويدية للآداب، والتي تمنح جائزة نوبل للآداب منذ العام 1901، إلى الكشف علنا، وبأسمائهن الصريحة، عن تعرّضهن للتحرّش الجنسي من زوج زميلةٍ لهن في الأكاديمية، ذكرت صحافاتٌ غربيةٌ إنه اقترف اعتداءاتٍ جنسيةً (مزعومة؟) أيضا في شقتين تابعتين للأكاديمية، منذ 1996.
والبادي أن الرجل، وهو مصور فرنسي اسمه جان كلود آرنو، كان صاحب نفوذ على هذه المؤسسة العتيدة (تأسّست في 1786)، والتي لا يفقد أيٌّ من أعضائها موقعه فيها إلا بالموت أو الاستقالة، فقد نُشر أنه ربط صلات عمل بين نادٍ ثقافيّ يديره والأكاديمية، في مقابل ملايين الدولارات (الكرونات على الأصح)، وقد تمكّن من تسريب أسماء فائزين بالجائزة الشهيرة قبل إعلانها، وربما ساعد في إيصال أسماءٍ وحرمان أخرى. ويؤشّر هذا الإيجاز لتفاصيل كثيرة، ومثيرة، إلى فسادٍ مهولٍ ضرب أداء أعضاء الأكاديمية السويدية للآداب الذين يحتكرون، دون غيرهم في العالم، تخليد اسم هذا الكاتب أو ذاك الأديب في نادي الفائزين بالجائزة العالمية، ما يساهم في ترويج كتبه وترجماتها ومضاعفة شهرته. وقد نادت أوساطٌ سويدية، وغربية، في غضون انكشاف فصول هذه الفضيحة السوداء بأن يتم تعديل نظام الأكاديمية وعضويتها. وقد تردّد، في الأثناء، أن “هؤلاء بشرٌ مثلنا”، فكيف لهم أن يحوزوا هذه القداسةَ الطوطميةَ لينفردوا بمداولاتٍ بشأن قوائم قصيرة يفترضونها لينال واحدٌ فيها جائزة نوبل للآداب، ثم قد تأتي النتيجة غير مقنعة، ليس فقط بشأن من يُعطى الجائزة، بل أيضا بشأن من لم يُعطَها.
… ما المستفاد عربيا من هذا الحدث الذي مثّل هزّة كبرى في الأوساط الثقافية في العالم؟ وكانت الحربان العالميتان، الأولى والثانية، في القرن الماضي، سبب إلغاء إشهار الجائزة في أعوامهما، لكنها في عامنا هذا فضيحةٌ شنيعةٌ، يحضر فيها المال والجنس، تتسبّب في إرجاء منح الجائزة إلى العام 2019 (سيُعلن فيه عن فائزيْن). ولهذا السؤال أرطالٌ من الوجاهة، منها أننا، في الأوساط الثقافية والإعلامية العربية، مغرمون بالطخّ على الجوائز الثقافية العربية، وعلى فائزين بها، وعلى محكّمين ولجانٍ فيها، بل يظن كثيرون ممن يحترفون هذه المهنة أنهم عليمون بتفاصيل ما يتسقّطون من نمائم. ومن غرائب ما يفعله هؤلاء أنهم يستأنسون أحيانا بالجوائز الغربية وعلميّتها ونزاهتها وأحقية الفائزين بها وقدرة المحكّمين. ولنا في موسم الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) السنوي شاهدٌ على هذا، من دون أن يدرك أصحابنا هؤلاء أن الأمر ليس كما يستسهلون الكلام المسترسل، فالبوكر البريطانية يُصوّب عليها في بلادها سنويا مقادير وفيرة، محقّة وغير محقة، من انتقاداتٍ ومؤاخذاتٍ (حادّة أحيانا)، وقد تشبه ما نحكي فيه بشأن النسخة العربية من هذه الجائزة، وحدث مراتٍ أن كان بين المحكّمين في النسخة البريطانية وزيرٌ للدفاع وإعلاميون ومتخصّصون في الاقتصاد.
القصة ببساطةٍ ليست لغزا عسيرا، فثمّة جديرون بالفوز ينالون جوائز يستحقونها، بيننا نحن العرب، وفي الغرب ومؤسّساته، وهناك من يعطون جوائز ولا يستحقونها، هنا وهناك. وثمّة من يُختارون أهل جدارةٍ في التحكيم والتنظيم والإدارة لدينا ولديهم (لنا أن نقول أن أوضاعهم أفضل)، وثمّة من هم ليسوا كذلك. ولذلك كله، لن تخرجَ من الملّة إذا جهرتَ بأن الرواية التي فازت بالجائزة العربية هذه، أو تلك العالمية، لم تعجبك، وإن الرواية الفلانية أوْلى بالفوز بدلا منها. وهذه فضيحة جائزة نوبل للآداب، المدوية، تسلّحك بشاهدٍ على قولك هذا، وهي أيضا قد تستثير فيك رغبةً باستعراض أسماء من فازوا بهذا التكريم العالمي، لتجد ببساطةٍ أن بينهم من لا يستحقّون، وأن غيرهم، أجانب وعربا، أفضل نتاجا وأرقى إبداعا. ولا شطط في زعم صاحب هذه الكلمات هنا مثلا أن نتاج الروائي الراحل أول من أمس، جمال ناجي، يتفوّق كثيرا على أعمال الألمانية الرومانية هيرتا مولر، الحائزة على جائزة نوبل للآداب في 2009، وأن نصوص صنع الله إبراهيم أرقى من أعمال النمساوية ألفريدي يلينيك (نوبل 2004)، وأن مُزحة إعطاء الجائزة للمغني بوب ديلان (2016) كانت سمجةً، لأن عبد الرحمن الأبنودي وجوزف حرب لم يُعطياها.
يُؤمل من واقعة فضيحة الفساد المالي والجنسي في أكاديمية نوبل للآداب السويدية أن تصيّرنا أكثر تخفّفا من تصديق أن كل “فرنجي برنجي”.
المصدر : العربي الجديد