قد تقع المواجهة الإسرائيليّة– الإيرانيّة وقد تتأجّل. لكنّنا نبقى في منطقة الخطر، والخطر الشديد.
فالموقفان الإسرائيليّ والإيرانيّ يصعب أن يتوافقا لأسباب لا علاقة لها بفلسطين وغير ذلك ممّا يردّده الإيرانيّون وأتباعهم. السبب الفعليّ أنّ تلّ أبيب لن ترضى بتكريس الوجود العسكريّ الإيرانيّ وقواعده في سوريّة. هذا ما تعتبره مسألة أمن قوميّ. لهذا تكاد تتطابق مواقف المستوى السياسيّ والمستويين العسكريّ والاستخباراتيّ منها. طهران، في المقابل، لن ترضى بأن تتخلّى عن كلّ ما استثمرته منذ 2011، هي وأتباعها، في سوريّة. لقد استثمروا بالبشر والمال والهيبة. أغلب الظنّ أنّ خسارة معلنة كهذه، لا سيّما في ظلّ أزمة اقتصاديّة حادّة، كفيلة بخلخلة النظام الإيرانيّ الذي سبق أن طالبته «الثورة الخضراء» في 2009 بالانسحاب من المشرق العربيّ.
وحتّى لو نجحت موسكو أو سواها في تأجيل الانفجار، فإنّ النجاح لن يدوم طويلاً. فطبيعة النظامين أقوى وأشدّ تأثيراً من وساطات ديبلوماسيّة تبقى، بالتعريف، محدودة الأثر والتأثير.
فنحن، مع إيران الخمينيّة وإسرائيل الليكوديّة، لا نواجه نظامين سيّئين فحسب، بل نواجه مشروعي هندسة اجتماعيّة وديموغرافيّة. وهذا، بطبيعة الحال، يتعدّى الخلاف السياسيّ معهما، أو الاعتراض السياسيّ عليهما. فالنظامان المعنيّان شوفينيّان في حدّهما الأدنى، عنصريّان في حدّهما الأقصى. فإذا ميّز بينهما أنّ أحدهما ديموقراطيّ برلمانيّ والآخر شبه توتاليتاريّ، جمع بينهما أنّهما نظامان قوميّان مستفحلان، يتداخل في تكوينهما الدين بالقوميّة، ولو بجرعات متفاوتة. وهما نظامان يمتلكان وعياً حدوديّاً قوّياً. فالحدود هي مسألة المسائل عند إسرائيل، وهذا الاعتبار أوّل ما يحكم علاقتها بالفلسطينيّين ومحاصرتها لحقوقهم، بل إنّ ضربتها المحتملة لإيران تندرج في الوعي الحدوديّ، لأنّها لا تحتمل الوجود العسكريّ لإيران في شمالها الشرقيّ. وبدورها فالأخيرة، ومن خلال ما بات يُعرف بـ «ممرّ قاسم سليماني»، تنوي أن توسّع حدود نفوذها بحيث يشمل المشرق العربيّ.
ولئن وفّر الفلسطينيّون حقل التمرين الأوّليّ على الهندسة الاجتماعيّة والديموغرافيّة الإسرائيليّة، فالسوريّون هم الذين وفّروا ويوفّرون حقل التمرين الأوّليّ على هندسة أوسع وأقسى تمارسها إيران. وهي أيضاً هندسة أخطر، نظراً لاتّصالها بالانقسام السنّيّ– الشيعيّ العابر للحدود والمشبع بالتاريخ. أمّا منطقتنا الواقعة بين إيران وإسرائيل فليست، في نظرهما، غير مكان بلا بشر، مكانٍ تسدّد إحدى القوّتين عبره ضرباتها للأخرى. فهي، بالتالي، منطقة تشجّع على الصدام بدل أن تردع عنه.
يضاعف الاحتمالَ هذا أنّ المشرق العربيّ لا يملك القدرة على المبادرة أو الفعل أو التأثير. والأفدح أنّ التناقضات المتفجّرة في سوريّة، والضامرة نسبيّاً في العراق، شديدة القابليّة للإلحاق بالتناقض الإيرانيّ– الإسرائيليّ نفسه بحيث تمحو نفسها بنفسها.
لهذا يرجّح أن يفضي الصدام إلى فتح جروح وتقرّحات لا تندمل في جسم المشرق، خصوصاً إن لم تتدخّل قوى العالم المؤثّرة لوضع حدّ لتمادي الصدام وتمادي طرفيه. والإشارات إلى ضعف شهيّة التدخّل ليست قليلة.
فما يقلق ويخيف بالتالي ليس المواجهة ذاتها، بل توافر العناصر التي تُديمها وتجعلها طريقة حياة مفروضة على عشرات الملايين ومئات آلاف الكيلومترات المربّعة. وهكذا قد نمضي إلى أن يقضي الله أمراً.
المصدر : الحياة