انسحاب دونالد ترامب من «خطة العمل الشاملة المشتركة»، أي من الاتفاق الدولي الساعي لمنع إيران من تطوير السلاح النووي، كما معظم أفعال ترامب، كان لاعتبارات ذاتية وداخلية ولم يأتِ ضمن رؤية متماسكة لمعالجة هذا الموضوع الشائك. المعضلة التي واجهت ترامب هي أن الاتفاق كان سيئاً بالفعل، إذ يقدّم لإيران باقة من التنازلات والضمانات ويرفع عنها حصاراً اقتصادياً خانقاً ولا يحصل بالمقابل إلا على تأجيل قدرتها على الإنتاج لفترة وجيزة تنتهي عام ٢٠٢٥.
لكن تأطير هذا الاتفاق بقرار صادر عن مجلس الأمن يجعل من العودة إلى ما قبله أمراً مستحيلاً. فخروج الولايات المتحدة من الاتفاق لا يبطله، وإبطال الاتفاق، إن تحقق بانسحاب إيران مثلاً، لا يحسّن إمكانية منع إيران من امتلاك السلاح النووي. ولكن ترامب، والذي كان قد انهال بأشرّ النعوت على الاتفاق، وعلى باراك أوباما الذي سعى إلى إعداده، يناجي نفسه بأنه السياسي الذي يحافظ على وعوده، وبما أنه قد وعد بالانسحاب، فهاكم الانسحاب. وكي لا يقال بأن هذا الانسحاب المستعجل وغير المدروس هو انسحاب مستعجل وغير مدروس، فهاكم «خريطة طريق» بديلاً عنه. وكان على مايك بومبيو، وزير الخارجية الجديد، أن يفصح عن هذه الرؤية البديلة. وهكذا فعل الإثنين الماضي.
ثلاثة اعتبارات متوفرة للولايات المتحدة في مسعاها الجديد الحازم إزاء إيران: الاعتبار الأول هو العقوبات الاقتصادية، وبومبيو قد توعّد إيران بأقصى العقوبات على الإطلاق. والاعتبار الثاني هو ملاحقة أدوات إيران في أنحاء العالم واعتراضها، بالوسائل المختلفة، بما في ذلك تلميحاً القوة الضاربة. أما الاعتبار الثالث، فهو مساندة الشعب الإيراني الساعي إلى إحقاق حقوقه الإنسانية.
إثنا عشر مطلباً مطروحة أمام إيران للاستجابة لها، يمكن جمعها في حزمتين: الأولى حول التسلح النووي والصاروخي، والمطلوب هنا أن تتخلى إيران بالكامل والمطلق والقابل للتدقيق عن هذه المساعي، والحزمة الثانية حول تدخلها في دول الجوار ودعمها للإرهاب في العالم، والمطلوب هنا أن تقطع إيران أي دعم تقدمه لأي طرف موسوم بالإرهاب، من حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي وأنصار الله، إلى القاعدة ونظام دمشق، وأن تخلي سبيل العراق وتسمح لحكومته باستيعاب فصائل الحشد الشعبي.
ومقابل التزام إيران بهذه المطالب الإثني عشر، توجساً منها من تطبيق الولايات المتحدة لما أدرج آنفاً، فإنه يصبح بوسعها أن تحصل على علاقات تجارية ودولية مكتملة وأن يعاد تأهيلها ضمن الأسرة الدولية.
ومع «خريطة الطريق» الجامعة المانعة هذه، والتي حوت كل الترغيب والترهيب، تكون حكومة الرئيس ترامب قد تميّزت عن سابقاتها، ويكون الرئيس ترامب قد أثبت مجدداً أنه هو رجل المهام الصعبة القادر على مقارعة المستعصيات. هذا على الأقل هو بعض المبتغى، إزاء الصف المؤيّد لهذا الرئيس داخل الولايات المتحدة. بل، على الأرجح، هذا هو كل المبتغى من «خريطة طريق» من دون معالم ومن دون تفاصيل، تقتصر على سرد مسهب للرغبات، وتتحدث عن أدوات وعن نتائج بعيدة كل البعد عن الواقع.
ففعالية العقوبات الاقتصادية لا تكون قاضية إلا إذا التزمت المجموعة الدولية برمّتها بتفاصيل تطبيقها، وهذا ما كان الحال عليه بالنسبة لإيران قبل أن ينسف الرئيس أوباما في استجدائه لأي اتفاق ينسب له الأسس التي كانت قد نجحت بتطويق إيران.
فمهما ارتفعت نبرة إنشائيات الوزير بومبيو، فإن المارد قد خرج من القمقم ولن يعود إليه. من شأن الولايات المتحدة أن تفرض ما شاءت من العقوبات على إيران، بل أن تضيّق على من يتعامل مع إيران، ولكنها لن تكون قادرة على العودة إلى سابق الحصار إلا من خلال حرب عالمية اقتصادية تشنّها الولايات المتحدة وحدها (ربما بمعاضدة ثمينة من غواتيمالا والباراغواي) على سائر العالم، بما في ذلك الحلفاء والشركاء الأوروبيون، لتخييرهم بين التعامل الاقتصادي معها أو العلاقات الاقتصادية مع إيران. في جعبة الولايات المتحدة ما بوسعه النكاية بإيران، أما التهويل بأشد العقوبات فهو جعجعة بلا طحن.
ما هو أكثر صدقية في كلام بومبيو هو المسعى إلى تطويق أدوات إيران بالوسائل المختلفة، لاعتراض التمدد الإيراني بالأصالة والوكالة في مختلف الدول. ولكن الواقع أن هذا المسعى خارج عن نطاق الاتفاق، وكان بالإمكان الاستمرار به من دون الانسحاب، بل إن هذا الانسحاب، بما يستدعيه من خطوات إزاء الحلفاء والشركاء من شأنه أن يعترض بعض أوجه هذا النشاط.
أما ثالث الاعتبارات، أي حقوق الإنسان في إيران على لسان وزير في حكومة الرئيس ترامب، فهو من باب الجرأة في النفاق. ترامب لم يلتفت يوماً إلى مسألة حقوق الإنسان إلا من باب التوظيف المبتذل، بل هو، وقبل أن تنهار فكرة القمة الثنائية، قدّم للتوّ ضمانات لطاغية كوريا الشمالية بأن حكمه سوف يستمر، من دون التفات لسجلّه المقزّز، إن تعاون معه.
بل لا بد للمتابع الإيراني، المعارض للنظام الاستبدادي، أن يجمع بين هذا الاعتبار الثالث وبين مضمون الترغيب في كلمة بومبيو بما ينسجم مع موقف ترامب إزاء كوريا الشمالية. أي أن الولايات المتحدة قد عقدت العزم على مساندة الإيرانيين في السعي إلى تحقيق حقوقهم إلى أن يبدي النظام الحاكم في طهران الاستعداد للقبول بمطالب واشنطن. حينها، على حقوق الإنسان الإيراني السلام.
لا جديد في كافة هذه المطالب وفي كامل هذه التهديدات. جميعها سيقت وأدرجت في أكثر من كلمة وخطاب من ترامب وطاقمه. ولكن أين الجدية في وضع هذه المطالب، والتي تدعو النظام في إيران، وهو في موقع الاستمرار والثبات والاطمئنان إلى أكثر من نجاح والركون إلى أكثر من علاقة، إلى التخلي عن ذاته والاستسلام؟
لا جدية بالطبع. بل مناورة إعلامية أخرى من دون مضمون، مطروحة برسم استدعاء التأييد من من يستفيد من تأييدها، لإعادة تسويقها في سوقها الأول، الداخل الأميركي، كدليل آخر على عظمة هذا العهد، فيما هي في الواقع دليل آخر على سفاهة هذه الأيام.
المصدر : الحياة