لطالما تحدث الساسة الأتراك عن المرحلة الثانية من معركة عفرين في شمال سورية، وهي الوصول إلى مواقع متقدمة، ذات طبيعة عسكرية في مدينة منبج، ووضع قدم على الضفاف الغربية من نهر الفرات. عندها فقط يمكن التحدث عن خلو المنطقة من حزب العمال الكردستاني، أي من كامل القطاع الذي كانت ترغب تركيا بوضعه تحت الحماية الجوية منذ بدء الثورة السورية.
وعلى الرغم من الحديث عن اتفاق بين تركيا والولايات المتحدة بشأن خريطة طريق للمنطقة، بحيث تخرج قوات حزب العمال الكردستاني لصالح نقاط مراقبة تركية، وتسليم المدينة إلى قياداتٍ محليةٍ عربيةٍ، شارك بعضها تحت لواء “قوات سورية الديمقراطية”، إلا أن الولايات المتحدة تبدو حائرةً، وليس لديها تصور عن كيفية تنفيذ هذا الاتفاق، وليس لديها نقطة بدء محدّدة لتنفيذه، وما يجري الحديث عنه خالٍ من أي تواريخ للبدء أو المدة، ناهيك عن الخطوط العريضة للاتفاق الذي من الممكن أن يجري الاعتراض عليه في أي مرحلة، أو ربما إيقافه. وعلى الرغم من معرفة أميركا أنها بحاجة ماسّةٍ للجانب التركي في أية عملية مستقبلية لضبط المنطقة، وضمان عدم رجوع القوات المتطرّفة، سواء كانت “داعش” أو تنظيمات مشابهة، إلا أن الولع الأميركي بقوات حزب العمال الكردستاني، والذي تصنفه جماعة إرهابية، يثير تساؤلاتٍ كثيرة.
قد لا يكون الجانب الأميركي العامل الوحيد في مدينة منبج، إذا استثنينا قوات النظام والقوات الروسية وبقية القوى التي تحمي النظام، والتي تراقب المنطقة عن بعدٍ لا يتجاوز العشرة كيلومترات، فهناك مجموعات عسكرية فرنسية دخلت عقب انتهاء عملية عفرين، وإبداء السلطات التركية رغبتها في توسيع هجومها ووجودها العسكري، ليشمل منبج أيضاً. وقد لا يكون دخول القوات الفرنسية إلى منبج بتسهيل أميركي في هذا التوقيت مجرّد مصادفة، فالولايات المتحدة تريد أن تجعل المعادلة أصعب، بإدخال متغيراتٍ جديدةٍ، وقد فعلت هذا بالوجود الفرنسي. وكل الحديث الذي جرى عن خريطة طريق، لتمكين القوات التركية من منبج، كانت بين الجانبين الأميركي والتركي فقط، وإذا أدخلنا التاريخ القصير للعلاقات التركية الفرنسية، وخصوصا الموقف الفرنسي من دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، نجد أن التعامل بين قوات عسكرية فرنسية وتركية في منطقة منبج يحتاج لغةً مشتركةً، قد لا يوفرها الجانب الأميركي، ويمكن أن يتم التعامل مع القضية كما يتم تسليم العصا في سباق التتابع في ألعاب القوى.
أبدت أميركا رغبتها بالخروج من سورية، وعلى لسان الرئيس دونالد ترامب شخصياً. وهي لن تخرج فوراً بالطبع. ولكن من الواضح أنها غير معنية كثيراً بالوجود غرب نهر الفرات، فمركز ثقل قواها المتمثل بالمطارات ونقاط القيادة يقع في المنطقة شرقي النهر، وهي راغبةٌ بتقليص وجودها غربه، تمهيداً للخروج النهائي لاحقاً، وجبهات المعارك التي ترغب في خوضها هي مع قوات “داعش” في جيوب موزعة على الحدود البعيدة مع العراق، وغالبيتها تقع شرقي الفرات. وأتاحت المماطلة في المحادثات مع الجانب التركي بشأن منبج الفرصة للجانب الفرنسي بالوجود، ولم يتأخر تصريح المتحدث باسم الرئاسة التركية، بكر بوزداغ، “إن الوحدات العسكرية الفرنسية قد تكون هدفاً لتركيا”. أما الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، المنسجم أكثر مع وضع بلاده، العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فقال “ليست لدينا نية بإيذاء الدول الحليفة، لكننا لا نستطيع أن نسمح للإرهابيين بالتجول بحرية قرب حدودنا”.
أصبحت منطقة غرب الفرات السورية أمناً قومياً لتركيا، وهي وجدت بالفعل في قسم كبير منها، وبموافقة جميع القوى الفاعلة على الأرض. لكن بقي القطاع المحيط بمنبج، وهذا ما أحدث بعض التوتر مع الجانب الأميركي الذي انسحب بخريطة طريق أعلن عنها، وبقي الجانب الفرنسي الذي يبحث، هو الآخر، عن حلم مدفون في هذه المنطقة منذ منتصف القرن الماضي.
المصدر : العربي الجديد